فصل: في ذكر سيف بن ذي يزن
قالوا: ولما تمكنت الحبشة على اليمن؛ خرج سيف إلى كسرى يستنصره، فوجد عنده النعمان بن المنذر اللخمي فاستأذن لسيف، ولما دخل قام له النعمان من مجلسه، وعظمه، فقال كسرى للنعمان: هذا ملك سمران يعني العرب، فقال له النعمان: نعم. فقدمه كسرى [أيضاً] وعظمه، وقال له: ما حاجتك؟ فقص عليه قصته، وأن الحبشة غلبته على اليمن وسأله النصرة، وقال: أنا ابن عمك، لوني لونك، فوجه معنا من يأخذ البلاد، وتكون في ملكك، فوعده وأقام عنده، وقد كان بعث إليه بأبغل من مال فقال: ما هذا؟ فقالوا: حباء الملك فأمر بتشقيق العباب فاستنثرت الدراهم، وأنهبها الناس فغضب كسرى، وقال: لم يقبل حبائي فقال سيف: جبال أرضي ذهب وفضة، ولم أرد إلا النصر من الملك، وأن تكون بلادي له، فوعده بالنصرة واستشار مرازبته.(1/156)
فقال: ما ترون في أمر هذا العربي، وقد وعدته بالنصر وبلاده نائية؟ فقالوا له: أنت ملك وابن ملك والوفاء بك أحسن، فقال له المؤبذ:إن عندي رأياً. قال له: وما هو؟ قال: في سجونك قوم قد استحقوا القتل بجرائمهم، فانظر رجلاً من أساورتك شيخاً فقودهّ عليهم، وقوِّهم بالسلاح ووجههم معه، فإن ظفروا كان باسمك، وإن هلكوا فهو الذي أردت، فأمر كسرى لمن في سجونه فوجههم معه، واختار رجلاً من المسجونين، يقال له: وهرز فقودَّه عليهم، وكانوا في مركبين فغرق أحدهما، وسلم الأخر الذي فيه وهرز، وسيف، فخرجوا إلى ساحل عدن، فلقيهم مسروق بن يكشوم بن إبرهة الأشرم بجموع الحبش فاقتتلوا هنالك ثم أن وهرز قال لهم: على أي شيئ ملكهم يقاتل؟ قيل له: على فرس. فسكت، ثم قال: على ما ملكهم يقاتل؟ فقالوا: على بغل، فقال: على ابن الحمار: انتقل من العز إلى الذل، لقد ذل وذل ملكه، ثم دعا بقوس له وكنانة، ثم استخرج عصابة فعصب بها خفاقيه، وأوتر قوسه، ولم يكن يوترها أحد غيره، ثم استخرج سهماً من كنانته، وقال: أروني ملكهم، فقالوا: هو صاحب الدرة الحمراء التي بين عينيه فرماه وهرز فشق الياقوتة، وتغلغل السهم في دماغه فسقط، وانهزمت الحبشة.(1/157)
وقد كان اجتمع أهل اليمن في لقاء سيف فحضروا الوقعة معه، فقتلت الحبشة قتلاً عظيماً، وملك من سلم منهم من القتل، وقد كان كسرى عهد إلى وهرز، وأعطاه تاجاً وخلعة من خلعه ومنطقه، وقال له: إذا صرت إلى اليمن فاسأل أهل اليمن عن هذا الرجل يعني سيفاً، فإن كان من الملوك فسلم له الأمر وألبسه التاج والخلعة والمنطقة، وإن لم يكن من الملوك فابعث إليًّ برأسه، واضبط البلاد إلى أن يأتيك أمري، فلما اجتمع أهل اليمن سألهم وهرز عن سيف؟ فقالوا: ملكنا وابن ملكنا، والقائم بثأرنا؛ فألبسه التاج والخلعة والمنطقة، وسُلِم له الأمر، [وسيف هذا هو القائل] :
ولقد سموت إلى الحبوش بعصبة.... أبناء كل غضنفر أسوار
من كل أبيض في الحروب كأنه.... ليث ببيشة شابك الأظفار
خيمت في لجج البحار فلم يكن.... للناس غير تزحم الأخبار
قالوا: ابن ذي يزن يسير إليكم.... فحذار منه ولات حين حذار
والعام عام قدومه ولعله.... نابت عليه نوائب الأقدار
حتى إذا أمنوا المغار عليهم.... وافيت بين كتائب الأحرار
ما زلت أقتل فلهم وشريدهم.... حتى اقتضيت من العبيد بثار
وسيف هذا هو الذي وفد عليه عبد المطلب بن هاشم في وجوه قريش، ووجوه قبائل العرب يهنؤنه بالظفر على العبيد، وبشر سيف عبد المطلب بابن ابنه محمد ً، وكان مولوداً [في وقته] وكان في الوفد أمية بن أبي الصلت الثقفي فقال فيه:
لا ينقم الثأر إلا كابن ذي يزن.... في البحر خيَّم للأعداء أحوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامته.... فلم يجد عنده النصر الذي سالا(1/158)
ثم انثنى نحو كسرى بعد سابعة.... من السنين لقد أيغلت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم.... تخالهم فوق ظهر الأرض أجبالا
من مثل كسرى وإذعان الجنود.... ومثل وهرز يوم الجيش إذ صالا
له لله درهم من عصبة خرجوا.... ما إن رأينا لهم في الناس أمثالا
بيضاً مرازبة غلباً جحاجحة.... أسداً تربت في الغيضات أشبالا
أرسلت أسداً على سود الكلاب فقد.... أمسى شريدهم في الأرض فُلاَّلا
فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتقياً.... في قصر غمدان قصراً منك محلالا
قصراً بناه أبوك القيل ذي يزن.... فهل ترى أحداً نال الذي نالا
منطقاً بالرخام المستزاد له.... ترى على كل ركن منه تمثالا
ثم أطل بالمسك إذ شالت نعامتهم.... وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن.... شيبا بماء فصارت بعد أبوالا(1/159)
فصل: في ذكر ذي رعين
وهو ذو رعين الأصغر بن عمرو بن شمر، من ذرية ذي رعين الأكبر.
قالت الرواة: إن أسعد [تبع] كان له ولدان أحدهما: حسان، والآخر عمرو، وإن الذي ولي الأمر بعد أسعد هو حسان فدوخَّ البلاد شرقاً، وغرباً، وهو المبيد لجديس باليمامة.
قالوا: ولما فرغ حسان من إهلاك جديس نهض يريد العراق، فصعب ذلك على حمير، وعلموا أنه لا ينتهي في غزوه حتى يبلغ بهم حيث بلغ أبوه وجده، وأنه سيبلغ بهم الصين، وبلاد الروم وغيرها؛ فشق ذلك عليهم فاختلفوا إلى أخيه عمرو بن أسعد، فسألوه أن يرد أخاه عن سفره، فقال لهم عمرو: إنه لا يقبل، فقالوا له: إن أبى فاقتله وتملك علينا، وقد كان حسان قال بعد قتل جديس:
من كان يأمل أن يؤ.... ب فلست من سفري بآيب
فتجهزي وتحملي.... يا يمن يا خير الركائب
فلقد وطئت بها اليمامة.... حاجباً من بعد حاجب
سيري إلى هجر.... لتحوي منهم خير الحقائب
وتوجهي نحو العراق.... بكل سياف وناشب
حتى نبيد ملوكهم.... أهل الأكالك والعصائب
ثم إن حمير حلفت لعمرو، وبقي منهم ذو رعين وهو خال عمرو، ونهاه عن قتل أخيه، وقال: إنك تندم فأبى؛ فأكره خاله على الدخول فيما دخلت فيه حمير، فقال له: على شريطة أنك تحفظ لي وديعة تجعلها عند بعض خدمك، وتشدد عليه في حفظها، فقال [له] : نعم. فكتب ذو رعين هذين البيتين في ورقة فدفعهما إليه، وقال:
ألا من يشتري سهراً بنوم.... قليلاً ما يبيت قرير عين
فإن تك حمير غدرت وخانت.... فمعذرة الإله لذي رعين(1/160)