وملك وهو ابن عشرين سنة، وغاص هو وفرسه في حمأة في بعض الأيام فجزعت عليه فارس لما كان عمَّها من عدله، وشملها من إحسانه، ثم ملك ابنه يزدجرد، وكان ملكه تسع عشرة سنة، وحين ملك أحضر رجلاً من حكماء عصره، فكان عنده يأخذ من أخلاقه، ويقتبس الرأي منه ليسوس به رعيته، فقال له يوماً: أيُّها[الرجل] الفاضل، ما صلاح الدنيا ؟ فقال: الرفق بالرعية، وأخذ الحقِّ منهم في غير مشقة، والتودد إليهم بالعدل، وأمن السبل، وإنصاف المظلوم من الظالم، فقال: فما صلاح أمر الملك؟ فقال: وزراؤه وأعوانه إن صلحوا صلح وإن فسدوا فسد، قال له يزدجرد: إن الناس قد أعملوا في أسباب الفتن، فصف لي ما الذي يسكنها ويرفعها؟ فقال الحكيم: إن الذي يهيجها جرأة عاميَّة، ويولدها استخفاف خاصيَّة، ويؤكدها انبساط الألسن بضمائر القلوب، وإشفاق موسر، وأمل معسر، وغفلة ملتذٍ، ويقظة محروم، والذي يسكنها أخذ العدة لما يخاف قبل حلوله، وإيثار الجد حين لا ينفع الهزل، والعمل بالحزم [والرضى] ثم تخلل منهم [ملوك منهم:] كسرى أنو شروان، عمل بسيرة أزدشير بن بابك، وكان ملكه ثماني وأربعين سنة، وهو الملك العادل الذي يضرب بسيرته المثل في العدل، ولما بنى إيوانه، وكان قد ورد عليه رسول ملك الروم بهدايا وألطاف، فنظر إلى إيوانه، وحسن بنائه، ورأى إعوجاجاً في ميدانه، فقال: لكان يحتاج هذا الصحن أن يكون مربعاً، فقيل له: إن عجوزاً لها منزل في مكان الاعوجاج، وإن الملك أرادها بيعه،(1/136)


وأرغبها في الثمن، فأبت، فلم يكرهها، فبقي الاعوجاج من ذلك كما ترى، فقال الرومي: هذا الاعوجاج أحسن من الاستواء.
وأنو شروان هذا هو الذي استغاث به سيف بن ذي يزن على الحبشة كما سيأتي، وهو الذي يسمى: كسرى الخير.
قالوا: وآخر من ملك من الفرس يزدجرد بن شهران بن أبرويز بن هرمز بن أنو شروان بن بهرام بن يزدجرد بن سابور [بن هرمز بن سابور] بن أزدشير، [الذي] هو أول من ملك من الساسانية، وكان ملك هذا إلى أن قتل -بمرو من بلاد خراسان- عشرين سنة، وذلك لتسع سنين خلت من خلافة عثمان بن عفان، وهي سنة إحدى وثلاثين من الهجرة النبوية.(1/137)


[ذكر اليونان وإلى من ينتمون]
وأما اليونان، فقد اختلف فيهم أيضاً، فذهبت طائفة من الناس إلى أنهم ينتمون إلى الروم، ويضافون إلى ولد إسحاق -عليه السلام-، وقالت طائفة: [إن يونان] هو: ابن يافث بن نوح وذكر المسعودي في (المروج) أنه قد قيل: إن يونان أخو قحطان، وأنه من ولد شالخ بن أرفخشيد، وأنه انفصل عن أخيه إلى العراق فانتشر ولده في العراق، والبلاد الشرقية، وأخرجتهم فارس، فجعلوا يطوفون الأرض حتى نزلوا على جزيرة الأندلس، وليس بها سكن، وكانت كثيرة الأفاعي فاختطوها، وأبادوها بالعمارة، وأول من اختطها أندلس [بن يافث].(1/138)


قالوا: وكان المعمور بعد الطوفان كطائر: رأسه الشرق، والشمال رجلاه، وما بينهما بطنه، والمغرب ذنبه، فكان يزدرى بنسبته إلى الذنب، وكانت اليونان لا ترى الحرب لضرره، وشغله عن العلوم، فلما نزلوا الأندلس وعمروها حسنت غاية ما يكون، حتى قال قائلهم: إن الطائر هو الطاووس أحسن جماله في ذنبه، وجعلوا دار الملك والحكمة (طليطلة) لتوسطها فنظروا فإذا ليس من يحسدهم على رغد العيش إلا أهل الشقاء، وهم حينئذٍ العرب والبربر، فرصدوا ارصاداً، ولما كان البربر بالقرب منهم، وليس بينهم إلا تعدية البحر، ويرد عليهم منهم طوائف منحرفة الطباع، نفروا منهم، وعلم البربر عداوة الأندلس لهم، فنفروا منهم أيضاً إلا أن البربر أحوج إلى أهل الأندلس من أولئك إليهم لوجود الأشياء بالأندلس، وكان بنواحي أرض الأندلس ملك يوناني، وله ابنة جميلة، فتسامع بها ملوك الأندلس، فخطبها كل منهم، فخشي [أبوها] أن يزوجها أحدهم، فيسخط الثاني فاستشارها، والحكمة مركبة في طباعهم، ولذلك قيل: نزلت الحكمة من السماء على أدمغة اليونان، وأيدي الصين، وألسنة العرب، فقالت: اجعل الأمر إليَّ، فإني أقترح أمراً، فمن فعله تزوجته، وهو أن يكون ملكاً حكيماً، فقال: نعم ما اخترت، فأجاب الخطَّاب بذلك، فسكت من ليس حكيماً، وكان فيهم حكيمان، فكتبا يطلبانها، فقالت: أطلب أمراً من كل واحد، فأيهما فرغ [أولاً] مما أطلب تزوجته، فكتبت إليهما: أريد من أحدكما إدارة رحى بالماء الجاري من ذلك البر، ومن الثاني طلسماً نحصن به أرضنا من البربر، فعمد صاحب الرحى إلى خرز عظام من الحجارة، ونضد بعضها إلى بعض في(1/139)


البحر المالح الذي بين الجزيرة، والبر الكبير، وجلب الماء العذب من موضع [عالٍ] بالبر الكبير في ساقية وبنى بالجزيرة رحى على الساقية.
وأما صاحب الطلسم فأبطأ عمله؛ لأنه ينتظر الرصد الموافق لعمله غير أنه أحكم أمره فابتنى بناءاً مربعاً من حجر أبيض بالساحل، فلما انتهى البناء إلى حيث اختار صوَّر نحاساً أحمر وحديداً مصفى مخلوطين بإحكام صورة رجل بربري بلحية، وفي رأسه ذؤابة شعر جعد قائم في رأسه بجعودته، متأبط لكساء قد جمع طرفيه على يده اليسرى بأحكم تصوير، وفي رجليه نعل وهو قائم من رأس البناء على مستدق مقدار رجليه فقط، وهو شاهق طوله نيف على ستة أذرع، وهو محدد الأعلى فينتهي إلى ما سعته قدر ذراع، ماداً ليده اليمنى بمفتاح قفل، قابضاً عليه،كأنه يقول: لا عبور، فكان من تأثير هذا الطلسم في هذا البحر الذي تجاهه أنه لم يرَ قط ساكناً، ولا كانت تجري فيه سفينة بربرية حتى سقط المفتاح.(1/140)

28 / 205
ع
En
A+
A-