الحق، وقال: إن فيه وديعة، واستوصاه يرفعها له وأقامت الجارية في ذلك السرب إلى أن وضعت غلاماً، فسماه الشيخ: شاه بور، أي: ولد الملك، فسماه الناس سابور، وبقي أزدشير هذا دهراً لا يولد له ولد، فرآه الشيخ حزيناً، وكان خاصاً به، فقال له: سرَّك الله -أيها الملك- ويعمرَّك ما لي أراك كئيباً؟ فقال: من أجل أن ليس لي ولد يرث ملكي؟ فقال له الشيخ: إن لك عندي ولداً طيباً فادع بالحق فدعا به، ففض خاتمه، فإذا فيه مذاكير الشيخ، وكتاب: إنه لما أمرني الملك بقتل المرأة التي علقت منه لم أر أن أبطل زرع الملك الطيب، فأودعتها بطن الأرض كما أمرني، وتبرأت إليه من نفسي لئلا يجد عائب إليَّ عيباً ولا سبيلاً، فسر أزدشير بذلك سروراً عظيماً كبيراً، وأمر الشيخ بعد ذلك أن يجعل الصبي بين مائة غلام من أشباهه في الهيئة، ثم يدخلهم عليه فعرفه أزدشير من بينهم، وقبلته نفسه، فأمرهم أن يلعبوا في حجرة الإيوان بالصولجان، فدخلت الكرة الإيوان فأحجم الغلمان عن دخوله دونه، فدخل، فأمر أزدشير عند ذلك بعقد التاج له. ومَّما حفظ من وصاياه له عند نصبه إياه للملك أنه قال له: يا بني، إن الملك والديّن أخوان، لا غنى لأحدهما عن صاحبه، والدين رأس الملك، والملك حارسه، وما لم يكن له رأس فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع.(1/131)


ومَّما حفظ من مكاتباته: من أزدشير ملك الملوك إلى الكتَّاب الذين هم حماة الحرب والحراث الذين هم عمارة الأرض، سلام عليكم، ونحن كاتبون إليكم بوصية فاحفظوها: لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدو، ولا تحبوا الاحتكار فيشملكم القحط، وكونوا لأبناء السبيل مأوى تنجوا في المعاد، وتزوجوا من الأقارب فإنه أمسُّ للرحم، وأقرب للنسب، ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها لا تدوم لأحد، ولا تهتموا لها، فلن يكون إلا ما شاء الله، ولا ترفضوها فإن الآخرة لا تنال إلا بها.
وكان مدة ملكه أربع عشرة سنة وستة أشهر، ثم ملك ابنه سابور، وفي أيامه ظهر ماني الثنوي فدخل سابور في مذهبه من القول بإلاهية النور والظلمة، ثم عاد إلى دين المجوس، وترك المانوية.
وكان ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة، وقيل غير ذلك.
ومن ملوك الفرس: بهرام بن بهرام وكان ملكه تسع عشرة سنة، وأقبل في أول ملكه على القصف، واللهو، والنُّزه والصيد، لا يفكر في ملكه ولا رعيته حتى خربت البلاد، وقلَّت العمارة، وكان في بعض الأيام ركب للصيد فأجنَّه الليل، وهو يسير نحو المدائن وكانت ليلة قمراء فدعا بالمؤبذ لأمر خطر بباله، فجعل يحادثه، فتوسطوا في مسيرهم بين خرابات كانت من أمهات الضياع، لا أنيس بها إلا البوم، فإذا بوم بها يصيح وآخر يجاوبه.(1/132)


فقال الملك: أترى أحداً من الناس أعطي فهم هذا الصوت، فقال المؤبذ:أنا -أيها الملك- ممَّن خصَّه الله بذلك، فقال له: فما يقول هذا؟ وما يقول الآخر؟ فقال: هذا بوم ذكر يخاطب بومة أنثى، ويقول لها: أمتعيني من نفسك حتى يخرج بيننا أولاد يسبحون الله، ويبقى لنا في العالم ذكر، وعقب يكثرون الترحم علينا، فأجابته البومة: إن الذي دعوتني إليه هو الحظ الأكبر، والنصيب الأوفر في العاجل والآجل إلا أني أشترط عليك خصالاً إن أنت أعطيتها أجبتك إلى ذلك.
فقال لها الذكر: وما تطلبين مني؟ فقالت: أن تعطيني من خرابات أمهات الديار عشرين قرية مما خرب في دولة هذا الملك السعيد، فقال له الملك: فما قال لها الذكر؟ فقال المؤبذ: كان من قوله لها: إذا دامت أيام هذا الملك السعيد أقطعتك منها ألف قرية، فما تصنعين بها؟ قالت: في اجتماعنا ظهور النسل وكثرة الولد، فنقطع كل واحد من أولادنا قرية من هذه الخرابات، فقال لها الذكر: هذا أسهل أمر سألتيه، وأنا ملي بذلك.(1/133)


فلما سمع الملك الكلام من المؤبذ عمل في نفسه، واستيقظ من نومه، وأفكر فيما خوطب به، فنزل من ساعته، ونزل الناس وخلا بالمؤبذ، فقال له: أيَّها القيم بأمر الدين، والناصح للملك على ما أغفله من أمور ملكه، وأضاعه من أمور بلاده ورعيته، ما هذا الكلام الذي تخاطبني به؟ فقد حرَّك مني ما كان ساكناً، فقال المؤبذ: صادفت من الملك السعيد جدة وقت سعادة البلاد والعباد فجعلت الكلام مثلاً، وموقظاً على لسان الطائر عند سؤال الملك إياي عمَّا سأل، فقال الملك:أيُّها الناصح، أكشف لي عن هذا العرض ما المراد به؟ فقال: أيُّها الملك، إن الملك لا يتم إلا بالشريعة، والقيام لله بطاعته، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قيام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل هو الميزان المنصوب بين الخليقة، [نصبه الرب] وجعله[الله] قيماً بين عبيده.
فقال الملك: أما ما وصفت فحق، فأبن لي فيما إليه تقصد وأوضح لي في البيان؟
قال: نعم، أيها الملك، عمدت إلى الضياع، وأقطعتها الخدم وأهل البطالة، فعمدوا إلى ما تعجل من غلاتها فاستعجلوا المنفعة، وتركوا العمارة، والنظر في العواقب، وما يصلح للضياع، وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك، ووقع الحيف على الرعية، وعمال الأرض، فأجلوا عن ضياعهم، وقلت الأموال، وهلكت الجنود والرعية، وطمع في ملك فارس من طمع من الملوك والأمم لعلمهم بانقطاع المواد التي يستقيم بها دعائم الملك،(1/134)


فلما سمع الملك ذلك أقام في موضعه ثلاثة أيام، فأحضروا الوزراء، والكتَّاب، وأرباب الدواوين، فاَنَّتُزِعت الضياع من أيدي الخاصة والحاشية وردت إلى أربابها، وحملوا على رسومهم السالفة، وأخذوا بالعمارة، وقوي من ضعف منهم وعمرت البلاد وأخصبت وكثرت الأموال عند الجباة، وقويت الجنود، وانقطعت مواد الأعداء، وأقبل الملك يباشر الأعمال بنفسه، فحسنت وانتظم ملكه حتى كانت أيامه تدعى بعيد الأعياد لما عمَّ الناس من الخصب، وشملهم من العدل، ومن مشاهير ملوك الفرس بهرام بن يزدجرد، وكان نشؤه مع العرب، وكان يقول الشعر بالعربية، ويتكلم بلغات كثيرة، وكان على خاتمه مكتوب: بالأفعال تعظم الأخطار، ومما حفظ من شعره يوم ظفر بخاقان حين أخذه أسيراً ثم قتله:
أقول له لما فضضت جموعه.... كأنك لم تسمع بصولات بهرام
وإني حامي ملك فارس كلها.... وما خير ملك لا يكون له حامي
ومن ذلك قوله:
لقد علم الأنام بكل أرض.... بأنهم قد اضحوا لي عبيداً
ملكت ملوكهم وقهرت منهم.... عزيزهم المسود والمسودا
وكنت إذ تشاوش ملك أرض.... عبئت له الكتائب والجنودا
فيعطيني المقادة أو ألاقي.... برجليه السلاسل والقيودا(1/135)

27 / 205
ع
En
A+
A-