وروي(عنه) : أنه كان يستقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة[حتى مجلت يده] ويتصدق بالأجرة، ويشد على بطنه الحجر قال الشعبي وقد ذكره: كان أسخى الناس[كان على الخلق الذي يحبه الله، السخاء والجود] ما قال لسائل قط: لا، وقال معاوية وهو عدوه ومبغضه لمحقن بن أبي محقن الضبي لما قال له: جئتك من عند أبخل الناس- قال: ويحك!! كيف تقول: إنه أبخل الناس ولو ملك بيتاً من تبن، وبيتاً من تبر، لأنفد تبره قبل تبنه وهو الذي كان يكنس بيوت الأموال ويصلي فيها[شكراً] وهو الذي قال: يا صفراء، ويا بيضاء، غري غيري، وهو الذي لم يخلف ميراثاً، وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام.(1/101)
وأما الحلم والصفح: فكان أحلم الناس عن ذنب، وأصفحهم عن مسيء، وقد ظهر [من صفحه ما كان] يوم الجمل حين ظفر بمروان بن الحكم وكان أعدى الناس له، وأشدهم بغضاً [له] فصفح عنه، وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وخطب يوم البصرة فقال:" قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبي طالب، وكان [علي] -عليه السلام- يقول: ما زال الزبير منَّا أهل البيت حتى شبَّ [ابنه] عبد الله، فظفر به يوم الجمل، وأخذه أسيراً، وصفح عنه، وقال: إذهب فلا أرينك، ولم يزده على ذلك[وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة وكان له عدواً فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً] وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلما ظفر بها أكرمها، ونفذ معها إلى المدينة بسبعين امرأة من نساء عبد القيس عممهنَّ بالعمائم وقلدهنَّ بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به وتأففت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذين وكلهم بي، فلما وصلت[إلى] المدينة ألقى النساء عمائمهنَّ، وقلن لها: إنما نحن نسوة،
وحاربه أهل البصرة، وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيف وشتموه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه[في أقطار العسكر] : ألا لا يتبع مولي، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن، ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبى ذراريهم، ولا غنم شيئاً من أموالهم، ولو شاء أن يفعل ذلك لفعل، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو، وتقيَّل سنة رسول الله ً يوم فتح مكة، فإنه عفا والأحقاد لم تبرد، والإساءة لم تنس، ولما ملك عسكر معاوية(1/102)
عليه الماء، وأحاطوا بشريعة الفرات، وقال رؤساء أهل الشام[له] : أقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشاً، سألهم علي -عليه السلام- وأصحابه أن يسوغوا لهم شرب الماء، فقالوا: لا والله، ولا قطرة حتى تموتوا ظمأ كما مات ابن عفان، فلما رأى -عليه السلام- أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه، وحملوا على مراكز معاوية حملات كثيفة حتى أزالوهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع سقطت فيه الرؤوس والأيدي[وملكوا عليهم الماء وصار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم] فقال له أصحابه[وشيعته] : امنعهم الماء -يا أمير المؤمنين- كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذ هم قبضاً بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب، فقال:[لا] والله لا أكافيهم بمثل فعلهم أفسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك.
فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالاً وحسناً، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله -عليه السلام-.
وأما الجهاد في سبيل الله: فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين، وهل الجهاد لأحدٍ من الناس إلا له!!، وقد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله ً وأشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى، قُتِلَ فيها سبعون من المشركين، قتل علي[-عليه السلام-] نصفهم، وقتل الملائكة، والمسلمون النصف الأخير وإذا رجعت إلى (مغازي الواقدي) و(تأريخ الأشراف) ليحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك، دع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما، وهذا الفصل لا معنى للإطناب فيه؛ لأنه من المعلومات الضرورية كالعلم بوجود مكة، ومصر، ونحوهما.(1/103)
وأما الفصاحة: فهو عليه السلام إمام الفصحاء، وسيد البلغاء، عن كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة.
قال عبد الحميد بن يحيى : [و] حفظت تسعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت، ثم فاضت، وقال ابن نباتة : حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة، [و] حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب عليه السلام.
ولما قال بعضهم لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس، قال له: ويحك!!كيف يكون أعيا الناس!!، والله ما سنَّ الفصاحة لقريش غيره وحسبك أنه لم يدَّون لأحد من فصحاء الصحابة العشر [ولا نصف العشر] مما دونَّ له كفاك (نهج البلاغة) وقد مدحه الجاحظ في كتاب (البيان والتبين) وفي غيره من كتبه.
وأما سجاحة الأخلاق، وبشر الوجه، وطلاقة المحيا، والتبسم: فهو المضروب به المثل [فيه] حتى عابه بذلك أعداؤه، وقال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنه ذو دعابة شديدة، فقال -عليه السلام- في ذلك: عجباً لابن النابغة!! يزعم لأهل الشام أن فيَّ دعابة، وأني امرؤ تلعابة أعافس وأمارس وعمرو بن العاص إنما أخذها من عمر لقوله لما هم باستخلافه: لله أبوك لولا دعابة فيك، إلا أن عمر اقتصر عليها وعمراً أزاد منها وسمجها.(1/104)
وقال صعصعة بن صوحان وغيره من أصحاب علي وشيعته: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد، وكنَّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيف الواقف على رأسه، وقال معاوية لقيس بن سعد : رحم الله أبا الحسن، فلقد كان هشاً بشاً، ذا فكاهة، فقال قيس: نعم، كان رسول الله ً يمزح ويتبسم إلى أصحابه، وأراك تعيبه بذلك، أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبوتين قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى، ليس كما يهابك طغام الشام.
قال ابن أبي الحديد: وقد بقي هذا الخلق متناقلاً متوارثاً في محبيه، وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفا والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك.
وأما الزهد في الدنيا: فهو سيُّد الزهاد، وبدل الأبدال، وإليه تشدُّ الرحال ما شبع من طعام قط، وكان أخشن الناس مأكلاً ولبساً.(1/105)