قال: وما أقول في رجل أقرَّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره[والتحريض عليه] ووضع المعايب والمثالب[له] ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكراً حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعةً وسمواً [إذ كان] كالمسك كلما استتر انتشر عرفه، وكلما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستتر بالراح وكضوء النهار إن حجبت عنه عيناً [واحدة] أدركته عيون كثيرة، وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتمي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرتها وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كل من برع فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى، وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم، ومن كلامه –عليه السلام- اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى، ومنه ابتدى، فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته وأصحابه، لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه -عليه السلام-.(1/96)


وأما الأشعرية: فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن أبي بشر الأشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي وأبو علي أحد مشائخ المعتزلة، والأشعرية منتمون إلى أستاذ المعتزلة، ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب -عليه السلام-.
وأما الإمامية والزيدية: فانتماؤهم إليه الظاهر، ومن العلوم علم الفقه وهو -عليه السلام- أصله وأساسه، وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه ومستفيد من فقهه.
أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة[رحمه الله].
وأما الشافعي رحمه الله[تعالى] فقرأ على محمد بن الحسن، فرجع فقهه أيضاً إلى أبي حنيفة.
وأما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي، فرجع فقهه أيضاً إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على جعفر الصادق بن محمد الباقر وجعفر قرأ على أبيهعليه السلام وينتهي الأمر إلى علي -عليه السلام-، وأما مالك[بن أنس] فقرأ على ربيعة الرأي وقرأ ربيعة على عكرمة وقرأ عكرمة على ابن عباس وقرأ ابن عباس على علي[بن أبي طالب] -عليه السلام-.
وأما فقه الشيعة فمرجوعه إليه ظاهر، وأيضاً فإن فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب وابن عباس، وكلاهما أخذ عن علي -عليه السلام-.
أما ابن عباس فظاهر، وأما عمر فقد عرف كل واحد[منهم] رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره[من الصحابة] وقوله غير مرة: لولا علي لهلك عمر، وقوله: لا بقيت لمعضلة، وليس بها أبو الحسن.(1/97)


وقوله: لا يفتين أحد في المسجد، وعلي حاضر، فقد عرف بهذا الوجه أيضاً انتهاء الفقه إليه، وقد روت العامة والخاصة قوله ً: ((أقضاكم علي )) والقضاء: هو الفقه، فهو إذن أفقههم.
وروى الكل أيضاً أنه-عليه السلام- قال [له] وقد بعثه إلى اليمن قاضياً: ((اللهم أهدِ قلبه، وثبت لسانه )) قال: فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين، وهو -عليه السلام- الذي أفتى في الحامل الزانية، وهو الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر وهو الذي قال على المنبر صار ثمنها تسعاً وهذه مسألة لو فكر الفرضي فيها فكراً طويلاً لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنك فيمن قاله بديهة واقتضبه ارتجالاً.
ومن العلوم[علم] تفسير القرآن، وعنه أخذوا ومنه انتزع، وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك؛ لأن كثيره عنه، وعن ابن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له، وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخريجه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط.
ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون وعنده يقفون، وقد صرَّح بذلك الشبلي والجنيدي وسري [السقطي] وأبو يزيد البسطامي، و[أبو محفوظ] معروف الكرخي وغيرهم، ويكفيك دلالةً[على ذلك] الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه -عليه السلام-.(1/98)


ومن العلوم علم العربية والنحو وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشاه، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله، من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم، وفعل، وحرف [جاء لمعنى] ومن جملتها: تقسيم الكلمة إلى معرفة، ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى: الرفع، والنصب، والجر والجزم، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات؛ لأن القوى البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض لهذا الاستنباط، وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثنياها.
أما الشجاعة: فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحى اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة، يضرب بها المثل إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فرَّ قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلا قتله، ولا ضرب ضربة قطَّ فاحتاجت الأولى إلى الثانية.
وفي الحديث: كانت ضرباته وتراً، ولما دعى معاوية إلى البراز قال له عمرو : لقد أنصفك، فقال معاويه: ما غششتني منذ صحبتني إلا اليوم، أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه هو، أراك طمعت في إمارة الشام بعدي، وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه -عليه السلام- قتلهم أظهر وأكثر، قالت أخت عمرو بن عبد ود ترثيه:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله.... [بكيته أبداً ما دمت في الأبد]
لكن قاتله من لا نظير له.... وكان يدعى أبوه بيضة البلد(1/99)


وانتبه معاوية يوماً، فرأى عبد الله بن الزبير جالساً تحت رجليه على سريره فقعد، فقال له عبد الله : يا أمير المؤمنين، لو شئت أن أفتك بك لفعلت، فقال: لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر، فقال : وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف بإزاء علي بن أبي طالب؟ قال: لا جرم أنه قتلك وأباك بيسرى يديه، وبقيت اليمنى فارغة تطلب من يُقتل بها، وجملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتمي وباسمه يباري في مشارق الأرض ومغاربها، وأما القوة والأيد فبه يضرب المثل فيهما.
قال ابن قتيبة في (المعارف): ما صارع أحداً قط إلا صرعه، وهو الذي قلع باب خيبر، واجتمع عليه عصبة من الناس ليقلوه فلم يقلوه، وهو الذي اقتلع هبل من على الكعبة، وكان عظيماً جداً، فألقاه إلى الأرض، وهو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته عليه السلام بيده بعد عجز الجيش كله عنها فنبع الماء من تحتها.
وأما السخاء والجود: فحاله[فيه] ظاهر، (و) كان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده، وفيه أنزل:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } [الإنسان:8].
وروى المفسرون: أنه لم يكن معه إلا أربعة دراهم، فتصدَّق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية، فأنزل (الله تعالى) فيه:{الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } [البقرة:274].(1/100)

20 / 205
ع
En
A+
A-