الرابع : اعتبار أن الدولة تعبر عن مصالح المجتمع بجميع أطيافه واتجاهاته المختلفة وأنه لا يجوز لها أن تكون أبداً طرفاً من أطراف الصراع الاجتماعي بأشكاله المختلفة، وإنما هي مظلة يستظل بها جميع أفراد المجتمع مهما تناقضت هوياتهم، وقد عبر عن شيء من هذا المبدأ الإمام محمد بن عبد الله النفس الزكية(ع) (ت145ه) حين قال:(يجب على من قام بهذا لأمر الدعاء لجميع الديانين، وقطع الألقاب التي يدعى بها فرق المصلين، وغلق الأبواب التي في فتح مثلها يكون عليهم التلف، والامساك عما شتت الكلمة، وفرق الجماعة، وأغرى بين الناس فيما اختلفوا فيه وصاروا به أحزاباً، والدعاء لطبقات الناس من حيث يعقلون إلى السبيل الذي لا ينكرون وبه يؤلفون، فيتولى بعضهم بعضاً، ويدينون بذلك، فإن اجتماعهم عليه إثبات للحق وإزالة للباطل).
هذه الأفكار الأربعة تمثل روح النظرية السياسية الاسلامية كما صاغها الزيدية، وهي الأساس في مجمل تجربتها على الواقع، وكل ما سواها من عناصر النظرية السياسية لدى الزيدية فرع عليها، وأغلبها -إن لم يكن جميها- إنما يتناول آلية الوصول إلى الحكم، كما يتناول آلية انتقال الحكم وطريقة حل النزاعات المحتملة حين انتقال الحكم، وهي قضايا على أهميتها لا تعدو أن تكون إجرائية ونسبية بخلاف تلك الأمور التي تحدد دوافع الحركة وأهدافها وشكلها العام، وهذه الأفكار -كما هو واضح- أساس أي مشروع سياسي معاصر يهدف إلى استمرار مسيرة الإسلام في الحياة العامة.(1/6)
فمما سبق يظهر لنا أن دراسة النظرية والتأريخ السياسيين للزيدية أمر في غاية الأهمية والحيوية للمسلمين اليوم على اختلاف توجهاتهم ومذاهبهم، وهنا لابد لنا من التأكيد والتشديد على أهمية تحديد العناصر الجوهرية للنظرية، والتي تعتبر ثوابت النظرية وغايتها والمحددة لهويتها، وهي التي كانت روح التجربة عبر قرون من العمل والجهاد، ثم تمييزها عن العناصر العرضية التي لها صفة شكلية وآلية في الغالب، وذلك لأن العمل لإعادة التجربة أو استمرارها إنما يكون بإعادة ما هو جوهري منها، وأما ما هو عرضي أو شكلي فأمر يعود إلى الظروف الموضوعية، ثم إن التجربة التأريخية التي نريد أن نستفيد منها إنما هي تجربة تحريك تلك الأفكار الجوهرية في الواقع، وأما تحريك القضايا العرضية، أو الآلية، فأمر ثانوي، إلا إذا كان لتلك القضايا واقع ممكن في ظرفنا المعاصر.
أيضاً فإن تقييم النظرية إنما يكون بتقييم ما هو جوهري فيها أولاً، ثم يأتي بعد ذلك النظر إلى ما هو عرضي، وكذلك فإن تقييم التجربة السياسية للزيدية من حيث نجاحها أو فشلها، إنما يكون بقدر نجاح أو فشل إنزالها لما هو جوهري من النظرية على أرض الواقع، فإن تطبيق ما هو جوهري مع إغفال ما هو عرضي نجاح تام في حين أن تطبيق ما هو عرضي مع إغفال ما هو جوهري فشل ذريع مهما كانت الأسباب.هنا أو هناك.(1/7)
على ضوء ما سبق نأتي إلى موضوع هذا الكتاب.. فالكتاب يؤرخ -باختصار- للتجربة الساسية للزيدية عبر تسعة قرون -تقريباً- ويقدم لنا بذلك رؤية إجمالية لما كانت عليه تلك الحركة ولنجاحاتها وإخفاقاتها ولأيام صعودها وانخفاضها يضعنا في أول طريق الاستفادة من هذه التجربة الغنية.
وسنجد أنفسنا ونحن نستعرض حركة الفكرة أننا أمام تجربة بشرية لنظرية سامية، والبشر مهما اكتملوا إلا أن فيهم ما فيهم من أسباب النقص والعجز، كما أن للظروف الموضوعية محدداتها الخاصة بها، وبالتالي فلا يمكن خلو تطبيق النظرية مهما اكتملت هي بذاتها من نقص، ولذلك علينا أن لا نستغرب عندما نجد حالات الفشل في التطبيق، وعلينا أن لا نحمل النظرية وزرها، وإنما علينا أن نميز بين النظرية وبين التطبيق من جهة، ثم علينا أن نميز بين التقصير الناشئ عن قصور في القيادات وبين ذلك الناشئ عن الظروف التأريخية التي رافقت التطبيق. هذا التمييز يعيننا على استخلاص الدروس ومعرفة مكامن وأسباب الأخطاء السابقة، ولكن مع ما سنجده من الأخطاء فإننا -أيضاً- سنلحظ أن المسار العام للحركة السياسة للزيدية قد أنتج لنا مجموعة كبيرة من نماذج متميزة من الحكام، جمعوا بين العلم والعمل، والتقوى والعدل، وخشية الله والحكمة في الأمر والنهي، وسنجد أن السمة العامة لحركة الفكرة تدل على أنها ممكنة التطبيق، وتدل على أنها تؤتي ثمارها بشكل فاعل وسريع، كما سنجد أنها فكرة لم يتوقف العمل بها بعد الخلافة الراشدة، فلا نحتاج لأن نعود إلى عصورهم بحثاً عن النموذج فحسب، وإنما سنجد أنه في كل مرحلة تأريخية وجدت(1/8)
النماذج التي تسعى لأن تُعمل الإسلام.
أيضاً سنجد أن جميع حالات الفشل إنما تعود لأسباب تأريخية أو أهواء أو تقصيرات فردية، يمكن لنا أن نتجنبها ونحتويها، بسبب تطور المواصلات والاتصالات من جهة، ومن جهة أخرى تطور آليات التعبير عن الذات السياسية لدى الأفراد.
فبالأهواء الفردية وصل إلى الحكم من ليس أهلا له، ولكن مع ذلك نجد أنه لم يخل من يقرر عدم شرعية ذلك الأمر وبالتقصيرات الفردية نشبت حالات صراع بين أطراف كلها صالحة للحكم من حيث علمها وتقواها في الظاهر والظروف الزمنية التي صعبت بسط النفوذ على الأقاليم أو المناطق المختلفة التي طبقت فيها النظرية هي التي أعاقت في بعض المراحل سلمية انتقال الحكم وضبط المناطق البعيدة عن المركز في المراحل الانتقالية أو مراحل ضعف الدولة المركزية.
هذا كله مع أن النظرية لم تغفل في تفصيلاتها تلك الأمور، ولكن نعود للقول بأن الفكرة مهما اكتملت إلا أن تنزيلها على الواقع لا بد من أن يعتريه نقص بسبب نقص الإنسان ومحددات الموضوع، ويعيننا في تقدير هذا الأمر دراسة التجارب التأريخية للديمقراطيات الغربية؛ حيث نجد أن استقرار النظام فيها لم يكن نتيجة تلقائية لسلامة أو نضوج أو صحة الفكرة نفسها.(1/9)
وأخيراً ولعله كان يجب أن يأتي أولاً فإنه يجب أن لا ينظر إلى هذه التجربة على أنها ملك للزيدية، فهذا من الظلم بمكان، وإنما هي تجربة إنسانية إسلامية ينتمي إليها كل من اتفق معها في أهدافها السياسية، مهما كان دينه أو مذهبه، ولذلك نجد أن عبارة الزيدية في أول أمرها لم يكن لها دلالة مذهبية أو فكرية بقدر ما كانت تدل على كل من اتفق مع الإمام زيد بن علي(ع) (ت122ه) في دعوته الاصلاحية، والتي كانت تدعو -أساساً- إلى دفع الظالمين، ونصر المستضعفين، ورعاية المال، والحق العام، والحريات السياسية.. فكان من وافقه في تلك المبادئ يسمى زيدياً، وإن اختلف مع الإمام في رؤيته الفكرية أو الفقهية.
إن هذا التأريخ هو لتجربة إنسانية إسلامية تمثلت في مرحلة ما ضمن فئة من المسلمين، ويجب أن تخرج من إطارها الديني والمذهبي؛ لتكون ملكاً لجميع الأمة والإنسانية؛ فالقيم السياسية الأساسية لا دين لها، ولا مذهب لها، ولا حدود لها؛ فالأمن والعدل والعلم والرفاه -وهي من القيم السياسية الأساسية- أمور مطلقة عن كل قيد، فلا يوجد عدل سُنِّي، وآخر شيعي، ولا يوجد فقر على الطريقة الإسلامية وآخر على الطريقة الكفرية، ولا يوجد جهل عربي وآخر عجمي، وبالتالي فأي حركة كان شعارها الأبرز تحقيق تلك القيم ملك للناس جميعاً باختلاف أفكارهم وأصولهم العرقية أو القومية، وأما الشعارات الفرعية لتلك الحركة، فالغالب أن لا يتفق عليها الناس، وهذا أمر طبيعي، ولا يضر أصل القضية في شيء.(1/10)