الثار، ودفع العار، وكان شعاره في ذلك ما أنشده أبو مسلم الخراساني يوم أنزل ببني أمية البوار:
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت.... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أعمل أفكاري لهلكهم.... في خفية وهم بالشام قد رقدوا
حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا.... من نومةِ لم يَنُمها قبلهم أحدُ
ومن رعى غنماً في أرض مَسْبَعَةٍ.... ونام عنها تولى رعيها الأسدُ
فلما ضرب عامر بمحطته على صنعاء لم يكن لأهلها حيلة إلا التحصّن بدوائرها، وقد كان بها عمارة حصينة أكيدة، ما فرغت إلا في مدة مديدة، اتخذها ابن الناصر حيطة لهذا المعنى، ونسي قول الشاعر:
عليكم بدربٍ من رجالٍ فإنني.... مررت بدرب من حجار يُهدَّمُ(3/121)
قد كان أشار عليه الناس أولاً بحرب عامر من يوم موت أبيه عبد الوهاب ليشغله عنه بخلفه فعصاهم، واتخذه ولياً، ثم أشاروا عليه يوم طلع ذمار بالجيوش الكبار، بأن يحترس بتخديم عساكر يأتي بها من أقصى الشام فعصاهم؛ فصار إلى ما صار وانتهى أمر أهله ودولته إلى ما انتهى، و لولا أن شارباً احترس قبل دنو المحطَّة من صنعاء بجند قليل كانوا يخرجون من أبواب صنعاء إلى طرف محطَّة عامر في غفلات، فيفتكون بهم ويقتلون وينهبون، فلما فشى ذلك في المحطّة، وارتاع من بأطرافها من هذا السبب أمر بحيلة هائلة، وهي: اتخاذ دوائر أخر على أبواب صنعاء من جميع جوانبها، فحصل ذلك [الدائر] في أسرع مدة، فبقي منْ بصنعاء في أضيق من حلقة الفأس، وعزم عامر على تطويل اللبث والإقامة بمحطته، وأمر ببناء محالٍّ ودور وحوانيت للبيع والشراء، ومساجد تقام بها الصلاة، فصارت المحطة مدينة تجبى إليها ثمرات كل شيء، وأحدث فيها المطابخ، وجاء إليها التجار من كل فجٍّ عميق، ورخصت الأسعار بها، فكان مدة الإقامة في المحطّة من أول شعبان إلى يوم الإثنين سادس شهر محرم من سنة ثمان وتسعين قدر ستة أشهر، فوقع في هذا اليوم وقعة كبيرة في قاع صنعاء من الإمام الوشلي، والأمير محمد بن الحسين، فإنهما أغارا على صنعاء كما ذكرته في ترجمة الوشلي، وبين عسكر عامر، كان الظفر فيها للزيدية، وفرَّج الله على أهل صنعاء، ودخل الوشلي والأمير في أعيان من معهما على ابن الناصر يهنؤنه بالظفر، وقد كان أُرْجِفَ عليه كما ذكرته، فجوَّب عليهم، وشكرهم على غارتهم، وفرح بهم فرحاً كبيراً على مابه من الضعف من(3/122)
ذلك المرض الذي نهكته علته وأهانته، وإنما فعل ذلك تجلداً وكثرة مسرة، ولم يزل يتزايد ذلك المرض حتى إذا كان يوم الجمعة من العشر الأول من شعبان سنة تسع وتسعين وثمانمائة قبضه الله تعالى إلى رحمته حميداً فقيداً، فوقع عليه في صنعاء مثل يوم القيامة.
ودفن يوم ثاني موته إلى جنب حي السيد الفاضل، العابد، الزاهد: قاسم شريف من بني الهادي، قبر بمسجد بيت شكر، ووصل الخبر إلى صعدة يوم الأربعاء سادس موته، فامتلأت الجهات ظلمة، وبكى عليه أكثر الناس، وعظم موقع موته على أهل صعدة؛ لأنه [كان] ينصف من وصل إليه منهم مسافراً أو متوفداً، وكذلك ينصف من استوطن صنعاء منهم، فقد كان نقل إليها منهم في مدته أهل حلل كثيرة تقارب من مائة حلِّة، وذلك لعدله وحسن صحبته [لهم]، وقرئ عليه القرآن بمسجد الهادي –عليه السلام- بصعدة قدر ثلاثة أيام، التقى العزاء عليه بها الإمام الوشلي؛ لأن خبر موته وصلها وهو بها، وأقيمت المراثي عليه بالمسجد المذكور، وما تخلَّف أحد عن الحضور للعزاء والقراءة، وبلغنا أن أهل صنعاء وجندها حلفوا لأخيه أحمد؛ لأن محمداً هذا لم يخلف ولداً ذكراً، وأحمد هذا أخوه من أبيه، فولي البلاد إلى أن أخذها عليه عامر، فقبضه وأنزله [معه] إلى بلاده هو وأولاده، وأخته آمنة، فعاش أحمد مأسوراً قدر ثلاث سنين، فمات في الأسر، وله ولدان ذكران توفي الأكبر منهما سنة موت أبيه، وبقى الثاني واسمه : إبراهيم، واسم أخيه المتوفي: يحيى.(3/123)
نعم وكان ابن الناصر [هذا] من حسنات الدهر، وأفراد العصر، وأهل العلم الغزير، والإطلاع الكثير الشهير، فمن محاسن كتبه إليّ، وقد أهديت له نسخة من شرحي للمنظومة المشهورة الملقبة (بالصادح والباغم)، فقال- بعد تحميد كثير- ما لفظه: وحديث الشرح المبارك هو كتاب صغير حجمه، كثير علمه، فجزى الله من أهداه إلينا خيراً، ودفع عنه ضيراً، والتنبهات التي نبهنا عليها يسيرة، ولم تكد تخلو مؤلفات نحارير العلماء عن مثل ذلك.
هذا الزمخشري على نباهة قدره، وتضلعه من العلوم، وهم في (الكشَّاف) في نسب أيوب النبي –عليه السلام-، وهذا الإمام يحيى بن حمزة وقفنا له على شرح (لنهج البلاغة) [و] يسمى: (الديباج)، وذكر في خطبته: أن جامع النهج: الشريف أبو أحمد والد الشريف الرضي، وهذا وهم ظاهر، وهذا الإمام المنصور بالله وهم في نسب أبي سعيد الخدري، وذكر أنه مولى، ذكر هذا في (حديقة الحكمة شرح الأربعين السيلقية)، وهذه الأوهام غير قادحة في علومهم، وإنما الإنسان يعرض له النسيان، وأما ما حكاه وذكره القاضي شمس الدين أحمد بن خلِّكان في نسب ابن مقلة، وأنه محمد بن الحسين، فكلامك [هذا] هو الصواب، والوهم وقع مناَّ؛ لأن ابن الناصر ذكر في بعض الكتب: أن اسمه علي، فجوَّبت له بكلام ابن خلِّكان، فاعترف بأن الوهم منه.(3/124)
قال: ومطالعتنا لمجموعكم المبارك كانت أياماً قلائل، وعوَّل علينا السيد المرتضى بن قاسم في عاريته، ووقف معه برهة، يُجَدِّد له كل يوم نزهة، وحديث الخلفاء العبيديين وانحراف النواصب عن أمير المؤمنين، وعن أهل البيت الطاهرين، الأمر في ذلك كما وصفت، والنصب داء دويُّ، ومشرب وبيُّ، وقد أحسن القائل حيث قال:
تداعى لحرب بني المصطفى.... ذوو النصب فيها ومُرَّاقُها
وأحسن الإمام المنصور بالله -عليه السلام-، حيث قال:
لقد مال الأنام معاً علينا.... كأن خروجنا من خلف ردم
قال ابن الناصر في كتابه المذكور: وقد كنت [في] أيام تقدَّمت عنيت في جمع مجموع في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام، وصدرت إليك منه قطعة قف عليها وردها، ونبه على ما وجدت فيها من خلل، فالمؤمن مرآة أخيه، والله يوفقنا جميعاً لما يرضيه، ويجعلنا من المتحابين فيه، وبعد السلام، والدعاء مستمد [وطيه وصل ملحق خيراً] إلى الفقيه جمال الدين قد وجهنا لك عشرين أوقية فضة، فتفضَّل بقبولها، وبسط العذر، وصدّر لها من الفقيه محمد بن مهدي الشقري، وإن حصل مناقلة بها من صعدة فهو أصلح، وبعد السلام، فلما جاءني من مصنفه المذكور قدر سبعة عشر كراساً في قطع كامل بخط متقارب، وقفت على كتاب عارف، مطلع على مناقب أهل البيت دقيقها وجليلها، وزهدت أن بقية الكتاب يأتي مِثْلَي ما أرسل به، وأكثر نقله لما فيه من كتب أئمة الحديث، التي وقع الاتفاق مناَّ ومن مخالفينا على ما فيها.(3/125)