والبيت الثاني الذي قلت فيه:
وملكت في التحقيق جملة ملكه
فأبدله بما تراه مما ليس فيه جفاء عليه -أطال الله عمره، ولا أراه ما يكره، فإنه ممن صدقت فيه الفراسة، وحاز أسباب الرئاسة، وحسن السياسة، فما أحقه بقول ابن الأشعث:
قهر الملوك وسار تحت لوائه.... أُسْدُ الشرى وقماقم الأملاك
هذا آخر كتابه إليّ.
[قلت] : فانظر أيها الأخ المنصف إلى ما قد جرى بين هذين الرئيسين أولاً من مقتضيات الوداد الخالص، الزائد غير الناقص، وأما مولانا المؤيد فاعتقد ذلك ظاهراً وباطناً، وعصى من حثَّه على التحرز من كيد هذا الرجل، وقد ضربت له الأمثال، نحو قول من قال:
لا تأمنن امرءاً أسكنت مهجته.... ضيماً وتحسب أن الجرح يندمل
فقد يُرى ضاحكاً في وجه ظالمه.... وفي بواطنه النيران تشتعل
وكقولهم:
كل العداوة قد يرجى الزوال لها.... إلا عداوة من عاداك في الدين
وكقولهم: "لا تنسى المرأة أبا عذرها، ولا قاتل بكرها"، وأما عامر فربما أنه في أول أمره عقيب وفاة أبيه، وتقوم أكثر أهل دولته عليه من أهله وغيرهم، واشتغاله بحربهم وعلاجهم ومداراتهم كان يعتقد صداقة ابن الناصر ويحتقن له الصنيع ظاهراً وباطناً، والله اعلم.(3/116)


وأما من بعد أن تقوَّت شوكته، ودوَّخ أكثر خصومه، وثاب إليه عقله، فما سلم من تذكَّر دجله ودجل أهله عند ابن الناصر ومن في جانبه كشارب وغيره، ما كان يسمعه من شعرائهم، وعلمائهم، وعبيدهم، ومطربيهم من تحريكهم له، وحثَّه على حرب صنعاء والقيام بثأرهم، فإنه قلما اجتمعوا هنالك في موكب، أو عرس، أو مسرة، أو مأتم، يطرقهم عصره في تلك الديار إلا هيَّجوه، وأغروه، وحمزوه، وذكروا أهله، ومن قتل بين أيديهم من أركان دولتهم، وكان يتحرك لذلك، ويضمره سراً، وقد سبقه إلى هذا المعنى غيره من أهل الهمم العالية.
هذا أبو العبَّاس السفّاح لما ملك البلاد بعد بني أمية، وقتل أكثرهم، وأمَّن جماعة من وجوههم، دخل عليه مولى لبني هاشم، وقد جمعهم لضيفة سنية، فأنشده تعزية بأولئك الضيفان:
اذكروا مصرع الحسين وزيد.... وقتيل بجانب المهراس
الأبيات.(3/117)


وهي مشهورة،، والذي قتل بجانب المهراس: حمزة بن عبد المطلب -عليه السلام-، فما تمالك السفَّاح بأن أمر بضرب أعناق ضيفه الجميع، ثم مد السماط على جثثهم، وأكثرهم يناشط الموت، فما فرغ من طعامه حتى ماتوا وهم ثمانون رجلاً من [أعيان] بني أمية، فافهم ذلك، واعلم: أن الناس مثل الناس، ثم إن عامراً مازال يتقرَّب من صنعاء، ويزيل الشواغل التي بينه وبينها من المعاندين، وكثر لهجه بذكر ثلاء وغيرها من البلاد التي مال أهلها إلى الوشلي من الزيدية الخارجين عن دولة صنعاء، مثل: أهل كوكبان، وشبام، وذيفان، ويوهم أهل صنعاء أن الوشلي هو وجميع من والاه خصوم، وأهل صنعاء لي صديق، ويكاد يواذن صاحب صنعاء في قصدهم، ولو مرَّ إليهم في بلاده، فيجيب عليه بأن ذلك لك مباح أي حين طلبته، فيغرب عن ذلك مدة ويتناساه، ثم يذكره حتى لهج بهذا المعنى، وكثر ذلك منه، فتوهم صاحب صنعاء صدقه، وفي عرض ذلك، وهدايا عامر متواصلة إلى ابن الناصر، ثم بعد مُدَيْدة قلّت المهاداة، وشرع عامر في التألم والتشكي من شارب، وأنه يحب تقوي الوشلي وتمكينه ودخوله في البلاد، ولا يأمن على ذمار منه، وأيضاً فهو - يعني شارباً - متعرض لحرب همدان، وخرج عليهم إلى بلادهم يحاول أخذ معاقلهم وهم حلفاء لعامر، فكتب إلى صاحب صنعاء يتعتَّب عليه، ويطلب منه اقتصار شارب من هذه الأمور، وأكثرها موالاة الوشلي؛ لكونه له خصماً، وكثر منه التجرُّم من هذه المعاني، وهو يكفت ما حوله من بلاد الزيدية، وكان وقع من أهل مغارب ذمار ومغارب صنعاء معاندة له، ومخالفة عليه، وقتلٍ لجماعة من عماله، فما شعر الناس(3/118)


به حتى طلع إلى ذمار يوم عاشوراء من شهر محرم في جمع كثير قدم بعضهم إلى جمعة الجزع في المغرب، فاستولى عليها وعلى غيرها من تلك الجهات، فلما لم يبق له هناك معاند تقرّب من بلاد صنعاء قليلاً قليلاً بجيوش لا يحصيها إلا الله [تعالى]، ثم دنا من حصن كنن وغيره من البلاد التي كانت متغلبة عليه، ويظهر للناس أنه يريد التقدم إلى ثلاء وأما صنعاء فلا، واعتقد صاحب صنعاء صحة هذا القصد لا غير؛ إذ الأصل الصداقة لاجتهاده معه في تخذيل خصومه من شافعي وزيدي، وأيضاً فإن صنعاء ولو أضمر [محطته] عليها على الفرض والتقدير لم يمكنه ذلك؛ لما فيها من الحصانة، والأجناد، والأموال، والسيرة الحسنة من العدل الشامل لأهلها بحيث أن أمانهم وزمانهم ماقد جرى لغيرهم، وصيانتهم من المعار والمطالب فوق أربعين سنة، وأقل هذه الأمور تحملهم على أن من جاءهم لأخذ بلادهم قاتلوه ولو فنيت رؤوسهم وأموالهم، ولكونهم قد اعتادوا حرب بني طاهر في المدة الماضية، وردوا محاطهم، وقتلوا عامراً الأول وهم في ذلك الزمان أقل عدداً وعُدَداً ومالاً، وأكثر جسارة، فإن كانوا قد ردوا المتقدمين وهم في غاية الضعف و[قتلوا] ملكهم، فهم لردِّ هذا الذي سابقتهم إليه حسنه مع قوتهم الظاهرة وتوفّر أموالهم أقوى، فيكون هذا ونحوه مما يحمل عامراً على عدم التعرض للمحطة عليهم، فلم يزل يتسحلل على صنعاء، فجاءنا الخبر إلى صعدة عاشر من شعبان، أن هذا الرجل قدّم ثلاثة مقادمة إلى حدة، وصل أولهم نصف الليل، والثاني آخر الليل، والثالث نصف نهار ثاني، فملأوا ما بين حدةإلى نقم، [وعامر] وبقية مقادمته(3/119)


وقفوا مكانهم على ما رواه المخبر، وحكى ما وقع مع الناس [هناك] لهم من الهيبة، وابن الناصر يشدد قلوب أهل بلاده، ويقول: إنما قصد هذا الرجل [إلا] العبور إلى ثلاء وغيرها من البلاد التي لا تعلق لنا به، فلو فتحنا له باب صنعاء ليدخل منه، ويخرج من الباب الثاني لما غيَّر علينا ولا على رعيتنا وزن حبة، وشارب وغيره يحذِّرونه، ويقولون: ذرنا نملأ البلاد بالتحريم ولو جلبنا الخيل من الشام الداخلي؛ ليكونوا عندنا نحتاط بهم، وإن يكن ظاهر عامر وباطنه سواء لم تضرنا الخسارة، وأخذ [لنا] بالحزم، وإن يكن باطنه خبيثاً فالعساكر المتماثلة تتكافأ، فما كان يجيب من عذله، وأشار عليه بالحيطة إلا بأنّ معكم السلامة ما نحن لهذا الرجل بخصوم، وما صدَّق ابن الناصر وهو مريض حتى سمع المدافع والأنفاط، وحتى نصبت على القصر المنجنيقات والعراريد، وفي الأمثلة العامية: ولد الحرِّ ما يُصدِّق حتى يرى، و[قد] كان مريضاً من فالج أصابه في أول السنة، فلم يزل يتزايد، وكان هذا المرض من أكثر ما عزم عامر على قصد صنعاء؛ لأنه لما لزم المرقد، وقل الدخول عليه من الخاصة والعامة أكثر الحسَّاد الإرجاف عليه بأنه قد مات، وأنهم مخفون لموته، فأودعوه صندوقاً [و] قضضوا عليه فيه، وتركوا على سريره شخصاً، ولبَّسوه مثل كسوته، وهو في موضع مظلم، فالذي يرى ذلك الشخص يخرج ويشهد أنه بخير حي سوي، والثاني يقول: [بل] هو غيره ويحلف، فالتبس على الناس الأمر، ووصلت جواسيس عامر إليه إلى بلاده بكتب من ناس في صنعاء يحثونه على مبادرة الفرصة، فعزم وعضد ذلك ما في قلبه من محبة نقم(3/120)

184 / 205
ع
En
A+
A-