فاشرعوا في عود أرضكم.... واستعيدوا ذلك الطرفا
بل إذا يمممتم عدناً.... وزبيداً موطن الظرفا
لم يقم عمرو لزيدكم.... وغدا الممنوع منصرفا
وطويتم نشر ملكهم.... مثل طي الكاتب الصحفا
وعدلتم ميل ما صنعوا.... بنواحيكم وبالضعفا
فجزاء الغادرين وإن.... كان ضد العفو فهو وفا
وأنت يا منضي القلوص إلى.... يمن تنوى نواً قذفا
أبلغ السكان في جبن.... من ولاة الملك والعرفا
إن مولانا المؤيد قد.... شارك الآباء والسلفا
في تحريه لغزوكم.... كي يخلوكم سَفَا ونَفَا
خفقت أعلامه لكم.... وإليكم جيشه دلفا
عسكر ضخم شعارهم:.... حسبنا ربُّ الورى وكفى
من بني طه مقدّمها.... أو بكيل نصرة الخلفا
أعوجيات خيولهم.... تحمل المران والجحفا
لا تهاب الموت تقحمه.... بل تراه روضة أنفا
يا بني المختار مذهبكم.... لا تهينوه فيختلفا
يا بني المختار ملككم.... فانزعوه من يد الخلفا
نزعة في وقت شغلهم.... وتخشيهم لمن عسفا
واغنموها وهي باردة.... طعمه يحلو لمن خطفا
فعيون الناس شاخصة.... نحوكم ما أن تذوق غفا
إن دهمتم دولة وقفت.... هذه الأيام فوق شفا
دهمتها الخلق قاطبة.... ونكتها جهرة وخفا
إن تراخيتم بهم زمناً.... قدر شهر فارقبوا التلفا
وتقوّت بعد شوكتهم.... وتكلفتم لها الكلفا
قسماً بالله معتمداً.... من محبِّ أكدّ الحلفا
إن تضييعاً لفرصتها.... ما يراه ذو النهى نصفا
بل يراه كل معتبر.... صارفاً للنجح بل صلفا
وفق الله المؤيد.... للمنجدات الغر أن يكفا
وتولاه وكان له.... ناصراً من دهره كنفا
[تمت].(3/111)
القصة الثانية: أني كتبت إليه من صعدة بعد هذه القصيدة بكتاب وضمَّنته قصيدة عينية عجيبة، أذكرها عقيب هذه القصة، فعاد جوابه بخطه، أكثر مضمونه بعد بالبسملة قوله: وصل كتابكم الكريم، المزري بالدر النظيم، المشاكل لقميص يوسف إذ هبت به النسيم، منطوياً على القصيدة الفريدة المفيدة العينية، المنبية على قديم المودة وحسن العقيدة، فطالعناها وتأملنا لفظها ومعناها، فقلنا: لله درَّ من أنشاها، وبجيد المعنى رصَّعها وحشاها، فلقد أجاد ناظمها في الاختراع، وأبدع في التضمين والانتزاع، بما لو رآه الصاحب الكافي، القائم بحق العترة القيام [الكامل] الوافي، بعدما استحسنه من تمثَّل الحسن العسكري مؤلف كتاب (جمهرة الأمثال)، وقد كتب الصاحب إليه ونظم، منه:
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم.... كبرنا ولم نقدر على الوخذانِ
الأبيات.
فجوَّب عليه بنثر وبيت صخر أخي الخنساء :
أهمَّ بأمر الحزم لو أستطيعه.... وقد حيل بين العير والنَّزوان
والقصة مشهورة مذكورة في ترجمة الحسن هذا من تأريخ ابن خلِّكان، وقد استحسن الصاحب ذلك التضمين غاية الاستحسان، فقال المؤيد: [لو وقف] على نظمك لم يعد ما استحسنه في جنب شغلك هذا حسناً، وقد ضمنت العينية أبياتاً ذكرها الشاعر عبد الله [بن خالد أبو العميثل] يمدح بها مخدومه عبد الله بن طاهر، وقصيدتي العينية هي هذه برمتها، فالذي لي كتبته بقلم أسود، والذي له بقلم أحمر؛ ليعرفه الواقف عليه، ويدري باستحسان من مدحته، وأنه قد أنصف وأتحف وبجَّل، وكرَّم وجلل، وأعلَّ بالجائزة السنية وأنهل :(3/112)
قم يا سعيد الآن غنِّ ورجَّع.... بمدح مَليكٍ بالفضائل مولعِ
وابعث لمولانا المؤيد سيرة.... في الأرض ذات تأرَّج وتضّوعِ
الأوحد الصمصامة المحيي الندى.... والركن في البيت الشريف الأمنعِ
هو نقطة البيكار في أهل الكسا.... والروح في آل البطين الأنزعِ
مهدي مدتنا المؤرخ ذكره.... في الجفر وهو بذي العلامة قد دعي
حتى لقد قطع الرواة بأنه.... الأولى بقولٍ للفصيح المصقعِ
[يامن يحاول أن تكون صفاته.... كصفات عبد الله أنصت واسمع]ِ
[أصدق وعفّ وبرَّ واصبر واحتمل.... واصفح وكاف ودار واحكم واشجعِ]
[والطف ومَنَّ تأن وارفق واتئد.... واحزم وجد وحام واجمل وازمعِ]
صدقوا وما كذبوا وإن محمداً.... وجدت به هذي الخصال بأجمعِ
إن الصريح الفاطمي أحق.... بالتقريض من متعرِّب متجزّعِ
ولسيرة ابن الناصر بن محمد.... بقلوب أهل الدين أعظم موقعِ
أحيا ربوع العدل فهي بحسنها.... تنسيك أزهار الربيع الممرعِ
وتهجر العقد الثمين وقد ثوى.... من نحر غانية بأرفع موضعِ
عدل يظل الذئب فيه على الطوى.... والشاء حوليه تذود وترتعِ
ما ملك شاه وإن سموه عادلاً.... إلا مجازاً عنده أو مدَّعي
وإذا تصفح منصف سِيَراً مضت.... عن آل ساسان الملوك وتبعِ
لم تختلج فيه الشكوك بأنه.... منهم ألذَّ بمنظر وبمسمعِ
إذ كلهم لم يخل إلا من هوىً.... مطغٍ يدين به بدين أشنعِ
أو سطوة يرتاع من هجماتها.... كم من جنين في البطون ومرضعِ(3/113)
من لا له أهل فيهلك إثره.... ومن البلية هلك من لم يصنعِ
ولذاك كان يسيح ذو القرنين في.... غزواته في السر فيض الأدمعِ
حذر المعرة أن تصيب جنوده.... من غير قصد منه مهجة يرمعِ
يا أيها الملك الذي سمحت به.... أيامه وبمثله لم تطمعِ
أنت الذي في الرأي قس زمانه.... وإذا عقدت بذمة لم تخدعِ
أنت الذي لو شئت أصبح عامر.... عن ملكه متحيراً في زيلع
لكن رعيت له الوفاء تعمداً.... رعي السمؤل عهده في الأدرعِ
وعصيت فيه كل لومة لائم.... ومرجَّح وموصّل ومفرعِ
علماً بأن عواقب الفتن النوى.... والرأي قبل شجاعة المتشجعِ
فملكت في التحقيق جملة ملكه.... من غير سفك للدماء بمبضعِ
ووعيت ما قال الممثل موصياً.... لسواك إذ كم سامع لم يسمعِ
داء الرئاسة في متابعة الهوى.... ودواءها بالدفع لكن من يعي
وإذا الفتى استقصى لنصرة نفسه.... فاقطع لدولته بسوء المصرعِ
وبذاك أفحمت الخصوم وصرح الـ.... ـصبح المنير عن الظلام المفزعِ
وشأوت أرباب العلو إلى العلا.... وسبقت سابقهم ولما تتبعِ
فليهنك الحكم التي أوتيتها.... وانعم بملك في البسيطة أوسعِ
مع ما احتويت عليه من علم ومن.... حزم ومن أدب عميم ممتعِ
حتى فضحت دراية ورواية.... وفصاحة ذاك الأديب الأصمعي
ورزقت حظاً في العبادة لم تزل.... تحكي به نُسُك الإمام الكينعي
يامن نجعت إليه عاماً أولاً.... فحمدت لقيته بمدة منجعي
وأقمت مغبوطاً بحسن جواره.... وتصدري بإزآئه وتربعي
ما أنس لا أنسى مشاهدتي له.... في دسته كالبدر عند المطلعِ
وتغنمي تكرير لثم أكفه.... وتلذذي بخطابه وتمتعي
مقدار خمسة أشهر ما ينقضي.... حين بها إلا وفائدة معي
إما استفاد فريدة أو حكمة.... لمهذب يأوي إليه ألمعي
جالست منه كابن شور مجلساً.... لم أستمع فيه مقالة مقذعِ
لكنه شاب اللقاء تباعدي.... عن نسوة شعث بداري أربعِ(3/114)
ما كُنَّ يعتدن انتزاحي ساعة.... ويسؤهنَّ ترحلي عن مربعي
فبقين يحسبن الليالي كلما.... يوم يمرّ عدده بالأصبعِ
وإذا القوافل أقبلت ما راعني.... منهنَّ إلا كل طرس مفزعِ
فتنغصَّت إذ ذاك لذة خاطري.... وتوفّر الشوق المضر بأضلعي
وفرقت صنعاء كارهاً لفراقها.... والدمع من عيني يغرق مدمعي
فسقى أزال نجادها ووهادها.... من كل نوٍ بالحيا متبرعِ
وأدام دولة ملكها عزَّ الهدى.... والدين في عز طويل أمنعِ
وأعاذه فالعيد إن حققت أن.... يبقى ويفديه عداه بأجمعِ
عمراً طويلاً لانحصار لعده.... والله يسمع من دعاه إذا دعي
خذها يزينها مديحك تزدري.... هبطت إليك من المحل الأرفعِ
نعم: وتمام جوابه لما وصلته هذه القصيدة، أنه قال: اعلم أنه لا كلام أن قصيدتك هذه من القصائد الطنانات، وأنك في هذه المعاني سبَّاق غايات، وصاحب آيات، وممن أوتي بلاغة الإنشاء، ولكن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، خلا أن فيها بيتين فيهما طرف جفا في حق السلطان صلاح الدين: أحدهما الذي آخره زيلع، فأبدله كله بقولك:
ووفيت للملك المتوِّج عامر.... ومني عدوكما بسوء المرجع(3/115)