هلكه لا ملكه، وقد تجرَّد لذلك من عدن فوصل صنعاء يوم سادس، وافاها على غفلة وشارب يومئذٍ في حضور، فلما بلغه ذلك، وأن قد صار عامر ملوياً بمحطته على صنعاء نزل عليهم في عدة من الخيل لا تبلغ ثلاثين فارساً، وهم عدد لا يحصيه إلا الله ما تمنَّع منهم أهل صنعاء إلا بالدوائر والأبواب، فعمدهم شارب ببعض أولئك الثلاثين فارساً، فقتل من أصحابه جماعة، ومنحه الله النصر، فاستولى على تلك المحطة التي انجلت عن عامر قتيلاً لا يدرى من قتله، وقتل حوله من عسكره خلق كثير، واستمرت الكسيرة والنهب لجميع ما أجلب به من الأموال والخيول والسلاح، يكفيك أن هذه الوقعة ما قد سمع بمثلها إلا وقعة علي بن محمد الصليحي يوم قتل في المهجم من تهامة، وقد خرج في عساكر لا يعلم بها إلا الله تعالى، فقتله سعيد بن نجاح الحبشي، واستاق ما حوته محطته إلى زبيد، فسبحان القادر على كل قادر، ومن ذلك اليوم تمهدت مملكة ابن الناصر وشارب، ورهبتهم الخصوم، حتى أهل خيل قريباً من مائة فارس رئيسهم الأمير عَبْدل، نزلوا بقرية من أعمال صنعاء تسمى جحنة يريدون حرب أعمال صنعاء، فعمدهم شارب من صنعاء، وكانوا لا يحسبون الخيل قلت أو كثرت، فأحاط بهم عسكر صنعاء، وأرسل الله عليهم الهيبة، فلم تمتد لأحد منهم يد إلى سلاحه ولا إلى فرسه، بل ألقوا بأيديهم إلى القتل والأسر، فأدخلوا الأسرى صنعاء خلَّدوا في الحبوس إلى أن ماتوا، وقد كان بنو حمزة لما ملكوا صعدة، وكان رئيسهم الحسين بن علي بن قاسم ملَّكوه عليهم، فنصب ولده الهادي على صعدة وحصونها ونجران، فساس البلاد سياسة حسنة ـ أعني الهادي ـ،(3/106)
وأبوه قرّ في الجوف، واستمر الهادي يشنُّ الغارات على صنعاء بعد تمكن ابن الناصر منها، وبعد مهلك عامر، فتقدم الأمير الهادي في بعض غزواته حتى حطَّ ببلاد همدان بقرب القلعة، ولقيه هناك الإمام مطهر والمعافى بن عمر، وعضدهم الداعي صاحب القلعة بمن في جانبه وراموا الحصار لصنعاء، فخرج عليهم ابن الناصر بجنده فالتقوا بموضع يقال له: مقامر فوقعت هناك وقعة كبيرة مشهورة، تعقبها ارتفاع تلك المحطة، وولى الجمع الحمزي بغير غرض، وبعد مُدَيْدة قتل الأمير الهادي في الجوف، وبعد مُدَيْدَة خرج ابن الناصر على الأشراف إلى الزاهر في عسكر كثير، وكاد يقهرهم، فوقع من بعض جنده دهان للأشراف، وفترة [من القتال]، وتشجن ابن الناصر على صنعاء أن يخلفه عليها أحد من جند بني طاهر لاشتغاله بطول محاصرة الزاهر، فحمله ذلك على رفع محطته، وانكفأ راجعاً إلى بلاده، وقد كان كثرت الأراجيف في جميع بلاد الأشراف، وتشجن من بصعدة منهم عليها، فلما تنفَّس الأشراف من تلك المحطة، خرج الأمير محمد بن الحسين إلى صعدة ممداً عليها ومسكناً لقلوب الناس مَّما كان داخلهم من الفشل، ولما قتل الهادي ولم يبق لابن الناصر مشاغر ولا مشاجر، فسح لأكثر الأجناد، ونشر العدل في رعيته، وسار فيهم سيرة حسنة، واقتصر على صنعاء وما حولها، فلم يكن يحتاج من رعيته إلى فرقة ولا معرة فوق أربعين سنة، حتى ضرب بعدله المثل، وقد كان بعد قتل عامر تفرَّد بملك بني طاهر أخوه علي بن طاهر مُدَيْدة يسيرة، ثم مات، وتولى بعده ابن أخيهما عبد الوهاب بن داود، فسار في الناس من أهل اليمن سيرة عمَّيه، في(3/107)
خلال ذلك واجهه أولاد عامر بن طاهر، وقالوا له: قد وليت الأمر بعد أبينا وعمنا [علي]، وقدمناك علينا، واخترناك وأنت خيار، فقم لنا بنقم الثأر ممن ألحق بنا وبك العار والبوار، وإلا بدأنا بحربك، ولا تجدنا من حزبك، فلم يزل يعدهم ويواعدهم هذه السنة إلى هذه السنة، وفي خلال ذلك عادوه وعارضوه، وخرج عليه منهم من خرج، فقتل منهم من قتل وحبس من حبس، وفي عرض ذلك وهو يهزُّ بالطلوع على صنعاء، فتعرض له عوارض تحول بينه وبين مراده، فاضطر صاحب صنعاء إلى موادعته ومداراته، وتحمل له بأموال وخيول كان يصانعه بها، يستكفي شره لعلمه أنه لا طاقة له بحربه إذ لم يبق له من مملكة أبيه إلا صنعاء وما قرب منها، وخراجها لا يفي بمقاومة ملك اليمن مع مراعاته للرفق بتجار بلاده؛ إذ أكثر مكاسبهم من عدن والهند، فكان هذا النظر منه سبباً في تملك تجارة الأموال الجليلة، فلقد كان يدخل منهم الهند في كل جوشن من مائة تاجر، فبقوا على ذلك إلى أن مات عبد الوهاب في شهر جمادى الأولى من سنة أربع وتسعين وثماني مائة، فلما مات اضطرب أمر اليمن على ولده من حد بيت الفقيه وزبيد وغيرهما، وعارضه في الجبل ومملكته خاله عبد الله بن عامر، فكادت مملكة بني طاهر تختل لهذه المعارضة، وابن الناصر كره تقوّي عبد الله هذا، وأبطن الخوف منه، فأقام خاطره مع عامر، وسكن عنه، وسكنَّ من أراد مناوأته من الزيدية، وأهل ممالكهم، وبالغ في نصرته بالقول والفعل، فكان من ذكر له أو رجَّح له حرب عامر زجره وسكَّته وبكَّته، وقد كان فزع الناس إليه الشرق والغرب، والسادة، والقضاة، والعلماء، والأجناد،(3/108)
وقالوا له: استوت البلاد فقد اشتغل عنك الخصوم بعضهم ببعض فانتهز الفرصة، وسر بنا نسترد بلاد الزيدية، فما نلقى أحسن من هذه المدة، وقد كنت أنا عنده بقصر غمدان وافداً عليه، وجاء الخبر بوفاة عبد الوهاب، وأنا عنده أشاهد ما يقول له الناس في ذلك وما يرد عليهم حتى لقد جاء إليه أهل ذمار، وقد تغلَّبوا عليها، وقالوا: خذها لك ونحن في يدك، فأرسل معنا من جندك من يقبضها مناَّ لك، ثم نسير بين يديك نطوي لك أرض بني طاهر، فقال لبعض خواصه: سرمعهم واقبض قصر ذمار حتى آمرك فيها بأمري، وأوهم الناس أنه سامع لكلامهم، وأنه على رأيهم في طرد عامر من بلاد الزيدية، فلما قبض واليه ذمار وقصرها أرسل إليه: إنك إن كنت على رأيي، فسلم ما في يدك إلى السلطان صلاح الدين عامر بن عبد الوهاب، فهي بلاده وبلاد أبيه، ومالنا إليها رغبة، فامتثل واليه الأمر، وسلَّم ذمار وقصرها إلى أمير عامر، فمن تلك الفعلة انخدع الناس ورهبوا عامراً، وداهنه أكثر خصومه لفهمهم أن صاحب صنعاء أينما مال يميل، فلما قبض وكيل عامر ذمارا هان وجد عامر وفرغ من جهة الجبل، وركن بصحة نصرة ابن الناصر، وأنه غير قابل فيه عذل عاذل، فعامل من في بلاده من الزيدية بشر معاملة، وابن الناصر يسمع وينظر، فلم يداخله عليهم غيرة ولا حمية، بل كان إذا اشتكى عليه شاكٍ، أو توجه إليه متوجه يجيبه بأن البلاد بلاد ابن عامر مالنا عليه اعتراض، فاكتسع الزيدية لما رأوه يعضده وينصره نصرة ما فعلها له أهل مملكته الشافعية، فأقبل على حرب من حاربه من بلاد بني طاهر وغيرهم، وفرغ لهم فرغةكبيرة، وصابحهم وراوحهم حتى(3/109)
صفي له جميع مملكة أبيه وأهليه، وكان يكثر الشكر والثناء على ابن الناصر، ويقول: أنا لله ولمحمد بن الناصر لا أحرمني الله جزاءه، فما حفظ لي مملكتي إلا هو، وجاء لي خير من أهلي، ووقع بينهما مراسلة ومكاتبة ومهاداة، وكان كل واحد منهما يحلف برأس صاحبه.
ومن أعجب ما اتفق من ابن الناصر قصتان: أذكرهما هنا ليعرف الواقف عليهما أنه ما حسب أن عامراً يجزيه بالإحسان إساءة.
الأولى: أنه لما مات عبد الوهاب، وبلغ ذلك أهل صنعاء وغيرهم من الزيدية أقبلوا عليه يشيرون بالنهضة واغتنام الفرصة، وبالغوا معه في ذلك، وقد رأوني عنده في قصر غمدان بمنزلة رفيعة، جائني منهم عدة في مواقف مختلفة، وقالوا لي: بالله عليك إلا [ما] أنشدت أبياتاً تحثّه فيها على النهضة، فما عاقبة فعله تعود عليه ولا على الناس بخير، ولا عدو يرجع صديقاً، فرقمت أبياتاً تدلّ على مكاشفات الصوفية، فإناَّ وقعنا من عامر وابن الناصر في مالا يخفى على أهل البصائر، وقلت : قد أعذر من أنذر، ومن حذَّر فكمن بشَّر، ولكن لا حيلة في القدر، وهي هذه:
أبجدٍ منك أن تَقِفا.... وانتشار الملك قد أَزِفا
وسعود النصر طالعة.... وركام الفتح قد وَكَفا
والذي كنَّا نحدثه.... أن سيطوي الأرض قد عُرِفا
إن هذا وقت ذاك وما.... كذب الهبَّي إذا وصفا
يالها من فرصة عرضت.... ما بها للناظرين خفا
من يضعها سوف يطلبها.... حين يضحي الوجه وهو قفا
هذه الأقطار شاغرة.... وحماها انهدَّ وانقصفا(3/110)