معروفون بالشجاعة، فإنهم حين وصلتهم التتر لقيوهم، واقتتل الفريقان أشد قتال سمعه الناس، ثم انتهت بهم الحال بعد القتال الشديد، والدفاع الذي ما عليه مزيد إلى أن دخل عليهم التتر [البلاد]، فملكوها أجمع، فلما قضوا وطرهم من القتل والنهب والسبي فتحوا طرق الماء التي يدخلها جيحون إلى خوارزم، فدخل البحر البلد، فغرق أهلها، وتهدمت الأبنية، وبقيت المدينة بحراً، فلم يسلم منهم أحد، بل كان من ظهر للتتر أخذوه بالسيف، ومن اختفى أخذه الماء فأغرقه فأصبحت خراباً هباء، ثم إن التتر ساروا إلى مرو، فأخربوه بعض خراب، وسبوا من أهله بعضاً، وقتلوا بعضاً، ثم عمدوا إلى طوس، فنهبوها وقتلوا من أهلها، وأخربوا مشهد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام الذي فيه قبر هارون الرشيد، وأذعن لهم سائر ملوك العجم من فارس وكرمان بالطاعة، وحملوا إليهم الأتاوة، ولم يبق في البلاد الناطقة باللسان العجمي إلا ما حكم فيها سيفهم أو قلمهم، فأكثر البلاد قتل أهلها، وسبق السيف [فيهم] العذل، والباقي أدى لهم الأتاوة رغماً وأعطى الطاعة صاغراً، وكانت للتتر بعد ذلك نهضات وسرايا كبيرة إلى بلاد الشام، فقتلوا فيها وسبوا ونهبوا حتى انتهت خيلهم إلى حلب، فارتعد الناس منهم وصانعهم عنها أهلها وسلطانها، ثم عمدوا إلى بلاد صاحب الروم، فبخع لهم بالطاعة، وأرسل إليهم [يسألهم] قبول المال والمصانعة، فضربوا عليه ضريبة يؤديها كل سنة، ورجعوا عن بلاده، وأقاموا على جملة السكون والموادعة للبلاد الإسلامية كلها إلى أن دخلت سنة ثلاث وأربعين، فلم يشعر الناس في بغداد إلا وهم على(3/101)
البلد، وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة، وقد كان الخليفة المعتصم أخرج عساكره إلى ظاهر بغداد على سبيل الاحتياط، فوصل التتر وقد تهيأ ذلك العسكر، وتأهب لهم فوقع بين الفئتين مناوشة قتال، ومراماة بالنشاب، وعرف التتر عدم القدرة منهم على أخذ بغداد في تلك الحال، فلما أظلم الليل أوقدوا نيارهم، وارتحلوا راجعين إلى بلادهم.
قال ابن أبي الحديد: و إلى أن بلغنا من هذا الشرح إلى هذا الموضع لم يذعر العراق منهم ذاعر.
قال: ولو جرت على بغداد حادثة كما جرى على غيرها من البلدان لانقرضت ملة الإسلام، ولم يبق لها باقية. انتهى كلامه.
قلت: فليت شعري هل عاش ابن أبي الحديد [رحمه الله تعالى] إلى سنة ست وخمسين وستمائة، فإن التتر دخلت بغداد فيها وملكتها، وقتلت الخليفة المعتصم وولدين له مع ستة من الخصيان، ونهبت بغداد سبعة أيام، وقتل فيها خلق كثير، ثم بعد السبع رفع السيف، ووقع السبي في أهلها، وكان دخولهم لها في محرم من السنة المذكورة، ثم انصرفوا عنها، وولوا فيها من تحت أيديهم في شهر صفر، فهذا معنى تفسير كلام السيد صارم الدين في هذا البيت، وقد اقتصر السيد على ذكر بغداد، ولم يقتصر التتر عليها وحدها، بل في غيرها من بلاد الإسلام أكثر مما ذكرته في هذا المختصر، فمن أحب الإطلاع على بسطه، فليطالعه في شرح ابن أبي الحديد، أو غيره من كتب التواريخ.(3/102)
[الإمام محمد بن الناصر بن محمد بن الناصر ]
[قوله] :
حتى غدت جمرات الحرب هامدة.... وبدَّل الله حال العسر باليسرِ
وقلّد الأمر ملك من بني حسن.... ماض عزائمه من خيرة الخيرِ
مؤيد أيّد الدين الحنيف به.... لواءه خافق بالنصر والظفرِ
سل عنه أخبر به انظر إليه تجدْ.... ملئ المسامع والأفواه والبصرِ
وليس يعلم ما يأتي الزمان به.... سوى عليم قديم الذات مقتدرِ
تكلَّم السيد صارم الدين بهذه الأبيات أيام تمكن ابن الناصر من البلاد وقهر الأضداد، فكأنه خشي تحوُّل الأحوال، فاستدرك بهذا البيت الأخير، {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }[فاطر: 14]، والمراد به مولانا الخليفة، الأفضل، طراز العترة المكلل، السيد، الصدر، الحلاحل، العالم، العامل، العادل، صاحب المناقب والمفاضل، والفواضل والفضائل، الذي سار خبر رفقه برعيته وعدله فيهم مسير المثل السائر، المؤيد بالعزيز القاهر، محمد بن الناصر بن محمد بن الناصر، وقد تقدم مني تدريج نسبه في ترجمة أبيه، وذكرت هناك أنه من ذرية الإمام المتوكل على الله المطهر بن يحيى، وأنهم من نسل المطهر بن علي بن الناصر أحمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين -عليهم السلام-، ولد في عشر الخمسين وثمانمائة، وتوفي في شعبان سنة ثمان وتسعين وثمانمائة، وأمه الشريفة من بني المنتصر أشراف حصن ذروان في حقل يحصب، وهم من آل المطهر بن يحيى، وترَّبى في حجر الخلافة بصنعاء حتى بلغ مبالغ الرجال، فتقدم إلى صعدة في أوائل سنة خمس وستين، وقف بها قدر سنة فما فوقها، تزوج بها بنت عمر بن مهدي بن حسن بن زيدان زوَّجه إياها خالها عبد(3/103)
الله بن محمد بن مداعس، وكان أبوها قد توفي قبل ذلك بمدة، وقد بينت لك بعض ما جرى على أبيه من فوات أكثر حصونه ومدنه، فبنو حمزة ملكوا عليه من نجر إلى نجران، وقد دخل في ذلك [ظفار وحصونه]، وصعدة وحصونها، وبنو طاهر ملكوا ذمار، وما حولها عنوة إلى حد النقيل، وأما صنعاء فشراها عامر الكبير، فلما ملكها، وقف بها ابن الناصر من سائر من وقف بها من السادة أهل المدارس والمساجد، وما يختلف إليه لأمر ولا لنهي أحد من الناس، وتفرق عنه عبيده، ودخلوا في المهن التي يحصل بها النفقة والكسوة، ومنهم من بعد عن صنعاء وأعمالها يطلب المعاش، فاستمر ملك عامر بصنعاء قدر سنتين ونصف، ثم خطر بباله أن وقوف ابن الناصر بصنعاء مفسدة على المملكة، وأن الرأي إنزاله إلى اليمن، وكتب بذلك إلى عامله بصنعاء، وهو النقيب محمد بن عيسى البعداني، وقال [له] : اخبر المؤيد بما استرجحه السلطان عامر، فأخبره بذلك، ووهب له أياماً قليلة ليأخذ في أهبة النقلة، فخاف على نفسه، انما يعقب النقلة إلا الخلود في الحبوس، وكان خادمه محمد بن عيسى بن زيد الأسدي -الملقب شارب- والياً له في ذي مرمر والفصين، وأما حصن براش فكان المتولي له رجلاً من عيال أسد، فأرسل ابن الناصر إلى شارب المذكور في خفية يستدعيه، ويستغيثه في خلاصه، فجَّوب إليه شارب أن كن في أهبة، فخلاصك عليَّ بعون الله [تعالى]، وكان من المقدور أن عامل ابن طاهر على صنعاء خرج إلى بلاد سنحان يقبض زكاتها، وفرغت صنعاء من أكثر الجند، فانتهز شارب الفرصة وجَّرد قليلاً من الخيل والرجل في بعض تلك الليالي، {وَدَخَلَ(3/104)
الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا }[القصص: 15]، لا يريد إلا المهرب بمخدومه فقط، فلما استخرجه من داره وأركبه متوجهاً به إلى باب المدينة انتشر الخبر، ففرح أكثر أهلها، فتحزبوا وتعَّصبوا، وقالوا: إذاً ولا بد فلا تخرجه حتى نهجم نحن وأنت بيت الكراز، وهو وزير ابن الناصر، ووزير أبيه من قبله، لكن عاب فيهما ومال ميلة عامر، وكان أول من أشار ببيع صنعاء منه، وتقَّرب بذلك إلى عامر، فاصطنعه، وترك أكثر أحوال صنعاء وبلادها تحت يده، ولم يبق أحد يعارضه، وصار من عيون أعيان بني طاهر في صنعاء، فاسترجح ابن الناصر وشارب ما أشار به الحاضرون، فكبسوا على الكراز داره [في] تلك الساعة، فاستولوا على جميع ما فيها من الأموال التي لا يحصيها إلا الله تعالى، فلما انتهبت الدار، وقد اجتمع أكثر أهل صنعاء قالوا لشارب ومخدومه: اغتنموا بقية الفرصة، واعمدوا بنا قصر غمدان، ندخله ضربة بضربة، إما لنا وإلا لمن فيه من الرتبة، ففعلوا على ذلك، وأقبلوا على القصر قضهم بقضيضهم، وأحاطوا به من جميع جوانبه، فلما صحَّ ذلك لرتبة القصر وهم عسكر عظيم من همدان وغيرهم، وهم أيضاً من أشجع من يكون، لم يكن لهم همّ إلا أن صاحوا يطلبون الأمان والرفاقة، وبعضهم فرَّ وقفز من جانب القصر، فما طلع الفجر إلا وقد حازوا صنعاء أجمع، فلما بلغت النقيب ابن عيسى والي عامر كانت همته الشردة إلى ذمار، ومن ذلك اليوم حفظ الله على ابن الناصر رأسه ومملكته، ولما علم عامر بذلك أقامه وأقعده، ولم يزل يشن الغارات [والمغازي] على صنعاء حتى غزاها أربع مرات، وكان في الخامسة(3/105)