نقم، ولا يقربا صنعاء، وتلك الطريق تخرجهما إلى حوالي حصن كبن ليكون لهما ظهراً، ثم يبرزان على محطة عامر من جهة ضِبر حِدَّين وبيت بوس، والطريق هذه [طريق] وعشة على الخيل، فلما نزلا فيما ذكر حوالي حمراء علب يريدان السبق إلى بيت بوس، أقبلت عليهم أوائل عسكر عامر فمنعوهم المضي بمقصدهم، فوقعت هناك الوقعة الكبيرة التي اشتهر فيها [الأمير] محمد بن الحسين، فإنه قاتل أولئك العساكر وحده من وقت الغداء إلى بعد العصر بكثير، وكان ما جاء لمن معه ومع الإمام من العسكر قلوا، وما جاء لعامر [ومن معه] كثروا، وبقي الإمام يقاتل في موضع آخر قتالاً يحق لمثله، فلما عرف الأمير [محمد] قلة من معه أوصاهم بالاجتماع بين يديه معاً، ثم أقفى هو وهم إقفاءة واحدة، ومن مال عنه يميناً أو شمالاً قتل أو سلب، ومن سار بين يديه دافع عنه حتى أبلغهم مأمنهم.(3/91)
وأما الإمام –عليه السلام- فاستولى عليه عامر لزماً هو وولده، وقتل ممن حواليه قدر أربعة أو خمسة، وأخذت المحطة أجمع: خيامها، وخيلها، وجمالها، يكفيك أنه لم يبق قليلاً ولا كثيراً إلا ما سار به الأمير، ومن سار سيرته من بني حمزة، وأهل الشام، وكانت الهزيمة يوم الثلاثاء خامس عشر شوال من سنة ست عشرة وتسعمائة ووصل الأمير ومن معه الزاهر آخر نهار الجمعة وهو رابع الكسيرة، وبلغ الخبر إلى صعدة يوم السبت لم يعلم [بذلك] إلا الخواص، وانتشر [الخبر] يوم الأحد، فضاق الناس في صعدة ضيقاً كبيراً –خصوصاً- من لزم الإمام، وبكى من بكى، ووقع في المدينة فشيعة عظيمة، وبقينا ننتظر ما يخلف ذلك، فمن الناس من تجلَّد، وبنى على أن صنعاء توثق، فيما يعاود الأمير التجنيد والنصرة لأهل صنعاء، فما حال الأسبوع من يوم الهزيمة حتى وصل من أخبرنا باستيلاء عامر على صنعاء يوم الإثنين سابع يوم الهزيمة، ولما أسروا الإمام حبسوه وقيدوه، وفي خلال ذلك عرض له –عليه السلام- ألم مات منه إلى رحمة الله، فقيل: إنهم سمموا له، وقيل: غير ذلك، وكان بين أسره وموته ثلاثة أشهر، فلما مات –عليه السلام- فقد حميداً، شهيداً، سعيداً، [و] دفن مع جده السراجي بمسجد الأجذم بصنعاء، ووقع مع أكثر الزيدية بل مع أكثر من يعرفه أو يسمع به من موالف أو مخالف وجد عظيم وحزن جسيم، مقعد مقيم، [وولده يحيى خرج من الحبس وسلَّمه الله، ولا عقب له إلا هذا الولد، وأخت]، وما أحد من مشاهير صنعاء أحب أن يتظهر بحزن عليه، ولا حضر جنازته إلا من لا ينظر إليه، فالله حسب متولي لزمه، وأطفي نور فضله(3/92)
[وبركته] وكرمه، فما أحقه بما قيل:
أرادوا ليخفوا قبره عن محبه.... فطيب ثراء القبر دلَّ على القبر
وهذا دأب أئمتنا،الفضلاء النبلاء، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [الملك: 2] وتوفي وقد بلغ من العمر قدر خمس وستين سنة تقريباً، لأنه أخبرني مشافهة أنه من أنداد حي الإمام عز الدين، وعز الدين -عليه السلام- عمرّ خمساً وخمسين سنة، ومات كما تقدم سنة تسعمائة، وعاش من بعده الوشلي قدر عشر سنين، وهذه المدة هي مدة خلافته، وخلَّف من ذكر وهو السيد، الأفضل، [الأنبل] : يحيى [بن أمير المؤمنين]، أُسِرَ مع أبيه، ووقع به جراحة عظيمة سلَّمه الله من الموت منها، وقد كان عامر أطلقه يوم دخل صنعاء، ثم عنَّ له لزمه وأنزله اليمن مع من أنزله من الأشراف المأسورين، وخلَّف الإمام فيما اعلم من البنات واحدة توفي وهي مزوجة، وقد كان -عليه السلام- من أهل الكمال في جميع العلوم، والفصحاء في الأشعار، فمن [ذلك] قوله عليه السلام في شأن محطة عامر الأولى:
أمثلي من يطيب له المنام.... و يهناه الشراب أو الطعام
وصنعاء المدينة في بلاء.... أحاط بسورها القوم الطغام
ذوو الجبر الذين لهم مقال.... تلازمه الشناعة والملام
إلى الباري أضافوا كل فعل.... قبيح لا حياء ولا احتشام
فإن رئيسهم رجل غشوم.... على صنعاء يبنيه المقام
وأقسم أنه لا قام عنها.... بغير الفتح أو يرد الحمام
وحاصرها على الأقطار أرسى.... وفي أرجائها ضُرِبت خيام
وذلك عامر لا طال عمر.... له الطاغي وعاجله انتقام
كعامر الذي هو جد هذا.... بغى قدماً فأدركه الصدام
وقد ساواه في اسم واعتداء.... كذاك القتل يشمل والأثام(3/93)
ولسنا تاركي صنعاء لكن.... نجيُء بمابه يشفى الأوام
بجيش يطحن الأعداء طحناً.... شبيه السيل يقدمه الإمام
وعز الدين كسَّاب المعالي.... أمير الشام والبدر التمام
أمير حيدريُّ هاشميُّ.... هزبر بيهس بطل همام
شجاع يفرس الأقران فرساً.... له مجد رفيع لايرام
إذا ماراية عقدت عليه.... فلا خوف هناك ولا اهتضام
محمد الذي حمد البرايا.... شجاعته وقال بها الأنام
فياسبط الحسين أتى عدو.... لنا ولكم وأنت لنا حسام
وقد صافى عدوك من قديم.... وأعجبه التشاجر والخصام
إذا صافى صديقك من تعادي.... فقد عاداك وانصرم الكلام
فأسرج خيل عزمك يا همام.... وخذ بالحزم لايرخى الحزام
وحصنها بعدتها اعتماداً.... ولا يُنٌزَع من الرأس اللجام
وخصمك قد توَّرط فاغتنمه.... فهذا ساعة فيها اغتنام
فَصِحّ في الناس وادع إلى جهادٍ.... لرأس الدين وهو له سنام
تجيبك حاشد وكذا بكيل.... وخولان جميعهم ويام
وناد الخيل تأتي من سراة.... سراة قادة نُجبُ كرام
وإني سوف أحشد من عداهم.... وألزم من أتاه الاحتلام
ولا أبقي سوى المعذور شرعاً.... صغيراً أو كبيراً لا يلام
انتهى ما وجدته من هذه القصيدة حال كتابة هذا الكراس، وله -عليه السلام- في هذا المعنى قوله:(3/94)
جلبنا الخيل من سروات نجد.... على خصم لننقم منه ثارا
نقيم الحرب في غور ونجد.... عليه والعجاج عليه ثارا
بكل مكعب من خير عود.... تخال سنانه في الجو نارا
وكل مهنَّد مشطوب حد.... يحتُّ العظم شدخاً وانكسارا
ونبل متلفاتٍ كل ضدَّ.... فينتثر الذي جمع انتثارا
وأسد ضاربات فوق جرد.... إذا داروا على الخصم استطارا
بني المنصور أفضل كل جد.... يحوطون الحقيقة والذمارا
سأطلب منهم إنجاز وعد.... أصول على أولي هدموا ذمارا
وأقفر ربعها من كل خبِّ.... فلا ديَّار فيه ولا ديارا
وأشفي غلتي من كل وغدٍ.... تجبَّر في رعيته وجارا
وأصرع من خصومي كل خد.... وأغسل سبة وقعت وعارا
فخلوا يا بني المنصور أرضاً.... قد امتلأت نوا حيها غيارا
بلاد هي بلاد بني أبيكم.... لآل المصطفى كانت قرارا
وحلوا أرض يحصب إن فيها.... مقاماً لن ترى فيه غيارا
وكونوا راجعين إلى كبير.... يسوس أموركم ودعوا الصغارا
فما يرجى لقوم قطّ عزُّ.... إذا ناوى صغارهم الكبارا
ولكن الكريم عليه عفو.... إذا رجعوا وساروا حيث سارا
وخلو البغي إن البغي شؤم.... على الدنيا ويعقبكم بوارا
لقد بعتم نفوساً عاليات.... نفيسات بما يلغي احتقارا
فبيعوها من الرحمن تحظوا.... بربح لن تروا فيه خسارا
فما ثمن النفوس سوى جنان.... وهل ثمن يساويها افتخارا
ومن يشري من الرحمن نفساً.... فيا نعم المشاري والمشارا
فلله الذين شروا نفوساً.... فما ضاهت تجارتهم تجارا
فعودوا للصلاح فذاك خير.... حذاراً من تفاوتكم حذارا
فذاك خسارة ديناً ودنيا.... فلا تبقوا على ذاك اغترارا
ولبّوا دعوة الداعي وقولوا.... إليك إلهَناَ نأتي بِدارا
فيا سبط الحسين أبا حسين.... مليك الشام من يحمي القفارا
وإنك ناصر للدين حقاً.... بك الملهوف في الدنيا استجارا
قُدِ الجيش العرمرم وا غتنمه.... وحسبك صيته في الأرض طارا
ليوث من بني المنصور مهما.... يفر القرن ما عرفوا فرارا
وأهل الشام أمجاد كرام.... ذوو الصولات من حازوا افتخارا(3/95)