جماعة ممن وصل من صنعاء أنهم سمعوا ناعياً في ذلك اليوم ينعاه -عليه السلام-، ويصرخ باسمه، وتلاقوا يتساءلون من أي جهة سمع الناعي؟ فكل يخبر أنه [سمعه] من الجهة الفلانية بجهة غير جهة الثاني، فلما كان اليوم الثالث بلغهم علم وفاته من الكتب، فقطعوا أن ذلك هاتف من الروحانيين أمرهم الباري بعلمهم بذلك؛ لعظم منزلة هذا الإمام من الله سبحانه وتعالى، فأمر السيد المؤيد محمد بن الناصر بعد وصول الكتب إلى الأعيان من السادة والفقهاء، أن يعلموا الناس، ويحثوهم على الحضور إلى الجامع، فحضروا الكل، وقرءوا على نيته قدر سبعة أيام، وأحضرت الشماع والمسارج، وما تخلف أحد أبداً، وكذلك فعل الناس في مسجد الهادي -عليه السلام-، وعظمت الرزية في البرية، وأنشدت مراثي كثيرة في صعدة وصنعاء وغيرها من فصحاء الزمان، والله المستعان، وعليه التكلان، فكان مما قلته من التأبين، وإثارة القلب الحزين قولي:
نقمتُ الرَّضَى حتى على الروض والقطر.... إذا ضحكت من بعد قاصمة الظهرِ
وأوحشني نور الثريا وقد مضت.... تقهقر نحو الغرب خوفاً من الفجرِ
ويعجبني جنح الظلام لأنه.... يناسب ما قد كان من فادح الأمرِ
أبعد إمام العصر يضحك ضاحك.... ويَبْسُمُ ثغر بئس ذلك من ثغرِ
وموتك عز الدين أجرى مدامعي.... وأشرقني ريقي وضيِّق من صدري
وصيَّرني قد ضاق بي الصبر ساحةً.... وقد كنت أوصي الناس قبلك بالصبرِ
ومهما رأيت الشمس في رونق الضحى.... ذكرت أفول الشمس من ذلك القصرِ
وحيث حكوا للنهي والأمر صورة.... ذكرت اختلال النهي بعدك والأمرِ(3/71)


لأن مناط الأمر بالعلم والحجا.... وقد دفنا مذ غبت عندك في القبرِ
ولم يبق بين الخلق إلا حثالة.... تضاهي وضير الزيت في أسفل القدرِ
أبا حسن من للمعالي يشيدها.... ومن لبناء المجد بعدك والفخرِ
أبا حسن من للعلوم يفيدها.... ومن لتمام الشرح بعدك للبحرِ
أبا حسن من للأصولين غيركم.... وشرحك للمنهاج بعدك من يقري
أبا حسن من للمنابر قارع.... يساقط وعظاً في المسامع كالدرِّ
أبا حسن من للبراعة مورد.... بكل مقام مورد البيض والسمرِ
أبا حسن من للفصاحة مفلق.... يجيد المعاني الغر في النظم والنثرِ
أبا حسن من للقضايا وفصلها.... يميزُّ محض العرف منها عن النكرِ
أبا حسن من للجيوش وبعثها.... يعود لها حسن السياسة بالنصرِ
أبا حسن من ذا نراه إذا احتبى.... بمجلسه في ذلك القصر كالبدرِ
ومن حوله آل المؤيد من أخ.... ومن ولد في الدار كالأنجم الزهرِ
ومن يلتقي الخلان حين يراهم.... بوجه طليق ظاهر النور والبشرِ
وما أنس لا أنسى مقالك لي وقد.... عهدتك في ذا الشهر لا كان من شهرِ
وذلك قبل الموت في ظن خاطري.... بعشر ليالٍ أو أقل من العشرِ
إذا ناب أمر يا محمد فادعني.... فإني لك الدنيا على نوب الدهرِ
ولم يك هذا من أياديك أولاً.... فكم لأبي بكر عوان ومن بكرِ
فلهفي على ما كان بي إن قصدته.... وأطلعته دون الأنام على سري
حفاً وفيَّاً معطياً ما سألته.... وإن لَم أسلُ أسدى وما أحد يدري
ويطلب مني الرأي والناس كلهم.... بآرائه يستصبحون من الغُدرِ
ولكن لفضل المرء والرتب التي.... تسنمها لا ينقص الجل من قدري
وكم قد حكى علمي وأطرى تأدبي.... وأعجب من حفظي ودوَّن من شعري(3/72)


فحزني على من كان لي متبححاً....كمثلك عز الدين باق إلى الحشرِ
وما ضرني قول الحسود بأنني....لنسلك لا أرعى الوداد مدى عمري
ولم يدر أني في محبة حيدر....وأولاده قد همت مثل الفتى العذرِ
فمن مبلغ آل المؤيد أنني.... شريكهم والله في الحلو والمرَِ
كذلك من حولي من الصحب كلهم.... فيالك من صحب جحاجحة غرِ
فإنهم في رزئكم قد تشاركوا.... وواسوكم في ذلك الغم والكسرِ
ومدوا بساطاً للمآتم والعزاء.... ولكنه درس المصاحف والذكرِ
فجازاهم الرحمن خير جزائه.... وحاطهم في كل وقت من الشرِ
و يهنيك يا عز الأئمة والهدى.... جوارك بالآباء والفوز بالأجرِ
حميداً سعيداً مثل أهليك رتبة.... وذباً عن الدين الحنيف لذي الكفرِ
وسوف تلاقيهم هناك بجنة.... بها كل نهر بالذي تشتهي يجريِ
وهذا هو الفوز العظيم وإنه.... ليعدل ألفي ألف من ليلة القدرِ
عليك سلام الله ما هبت الصبا.... وما بات برق فوق مشهدكم يسري(3/73)


ولنقبض عنان القلم على الجري في هذا اللقم، لأن استيفاء جميع ما خط هذا الإمام، وما رقم وما نثر وما نظم، يستغرق منَّا مجلدات ضخمة، يخرجنا إلى خلاف ما بنينا عليه هذا الشرح من اختصار كل حكمة، فلنعد إلى ذكر تعداد أولاده -عليهم السلام-، فأول من ولد له الإمام القمقام، علم الأعلام، وحجة الله على الأنام، شرف الدين، أمير المؤمنين: الحسن بن أمير المؤمنين، ثم السيد الأفضل، طراز المجد الأطول، شرف الدين: الحسين بن أمير المؤمنين، ثم السيد [الأوحد، الأفضل] الأمجد، شمس الدين: أحمد بن أمير المؤمنين ثم السيد الأجل، رفيع القدر والمحل، صلاح الدين: المهدي بن أمير المؤمنين، فهؤلاء الأربعة أمهم وأم أختهم الشريفة، الفاضلة: مريم بنت الإمام عز الدين، الشريفة، المكَّرمة، المعظَّمة: فاطمة بنت عبد الله بن صلاح بن محمد بن الحسن بن زيد، ومن أولاد الإمام السيد، الصدر، فخر الدين عبد الله بن أمير المؤمنين، وأمه وأم أخته، فاطمة بنت أمير المؤمنين الشريفة، المكرمة: بدرة بنت الحسن بن محمد بن صلاح، وهو من أخوال الإمام عز الدين الذين هم آل زيد، ومن أولاد الإمام المذكور الموجودين بعد السيد، النجيب، المهذب، الأديب: صلاح بن أمير المؤمنين أمه شريفة من الشرف، واسمها: وَسنا بنت محمد بن أحمد العلوي، وقد أخبرتك أن أشعار الإمام عز الدين قد ملأت دواوين، وأن منها ترثية لحي والده السيد، الصدر، الأجل، صاحب الرئاسة العامة، والذي كان في عصره الشامة في كرماء أهل البيت والعلامة، وهي من جيدات المراثي، ولما أنشأها الإمام، وتداولها الخاص من شيعته وقرابته والعام.(3/74)


قال لي: يا فلان، ما نكره شرحها، فقد نظمت [في] ذلك مدة السيد، وأحواله في سيادته، وتعديد قرابته وغير ذلك، فامتثلت رسمه، ونفذت حكمه، وشرحتها شرحاً لطيفاً، وسميته: (الرسالة الناطقة لشرح معاني المرثية الصادقة)، فلما وقف -عليه السلام- على هذا الشرح استجاده، وأمر بنسخه نسخاً متعددة، وكساني وأهل بيتي تكرمةً لائقة، وعلى حسبما يريده منه مطابقة، وقد تقدمت هذه الترثية في هذا الشرح في آخر الكلام على مضمون ترجمة الإمام، الأوحد: علي بن المؤيد، فإني ذكرت ولده الحسن -عليه السلام- هناك، فاعرفه موفقاً. [إنشاء الله تعالى].(3/75)

175 / 205
ع
En
A+
A-