وعلى الجملة: فقد احتوى ديوان شعره -عليه السلام- على الغرر والحجول، فهي كصوافن الخيول في كل مضمار تجول، ولولا ميلي إلى الاختصار، لذكرت منها هاهنا ما يزري بالأزهار تجري من تحتها الأنهار،وذكرت أيضاً ما عوّل عليَّ أن أعارضه من تلك الأشعار، لكن من أحبَّ ذلك فليطالعه في ديوانه، وديواني، فكل مناَّ قد رسم ما وضعه، ورقم من ذلك ما اخترعه.
فصل: نذكر فيه مدة عمره -عليه السلام- وموته، وذكر أولاده، وما أوصاهم [به] قبيل موته من اتخاذ مشهد له، مما يرضى به سائر آل الإمام علي بن المؤيد، فاعلم أني قد ذكرت فيما تقدم: أنه ولد بأعلى فللة في شهر شوال من سنة خمس وأربعين.
وأما وفاته : فإنه -قدَّس الله روحه- كان قليل الأمراض، من أعجب ذلك أنه لما خرج بعد دعوته كما تقدم للقاء العلماء الصنعانيين وغيرهم، فلقوه حول بلاد الأهنوم، وباحثوه في شروط الإمامة، فأجابهم بما طابت به نفوسهم فبايعوه هناك، فواذنهم بالتقدم معه إلى السودة، فاعتذر بعضهم، فلم يعذره، وكانت الطريق إلى السودة طريقين:(3/66)
أحدهما: تمر في رأس جبل الأهنوم، مرّها من تخوَّف سدم بلاد قحطان، والطريق الأخرى تمر على أكثر بلاد قحطان، وهي بلاد وخيمة، فكان -عليه السلام- ممن مرّ هذه الطريق بخيله وجماله، وجل عساكره، وهناك بلاد اسم بئر عندها بئر الشغف بات الناس حولها ليله واحدة، فمرضوا الجميع إلا الإمام -عليه السلام- ومن يخدمه ساعة ركوبه ونزوله، ويقود فرسه قدر خمسه جماعة أو ستة، وقد كان في مدة وقوفه بالهجر يقف للناس في تلك المحطة ليلاً ونهاراً، وهي بلاد غفصة سدمة، ومن دخل إليه إلى خيمته من أعيان الأصحاب ما قدر يصبر معه على ذلك الغفص، بل كانوا يتنزهون في الأمكنة العالية، وهو صابر على مراجعات الناس على طبقاتهم، وينظم [جميع] أمور تلك المحطة إلى حد الجمَّال، والغلام إلى حد من هو من أولئك العلماء [والسادة] في منزلة الإمام.(3/67)
نعم. وكان ابتداء مرضه يشبه السدم حمى وعرق، فلم يمنعه عن المواجهة، وتفقد أمر الإمامة ما بَعُدَ عنها وما قرب، بل كان في بعض الأحوال يعالج بخطه [في] تصنيف (شرح البحر) كما ذكرت أولاً، فما برح ذلك الألم يضعفه وينحفه، وهو على جَلَده يقرر قلوب أهله، وخواصه، وأولاده، وأوداده، وامتدَّ مرضه من أول يوم من رجب إلى [يوم] ثاني وعشرين منه، فتزايد عليه إلى نصف النهار من غده وهو يوم الجمعة ثالث وعشرين منه، فتوفي إلى رحمة الله ورضوانه، وقد كنت طلعت لعيادته أول الأسبوع الذي مات فيه، فأخبرني بمرضه، وبشرني أنه إلى خير، وأذن لي بالتقدم إلى صعدة، وكان [قد كان] استصحبت شيئاً يبدو به من يبدو على المريض، فشكر الصنع، واستودعته، وقال لي: إذا جاءك مني كتاب فاعمل على ما فيه، فسرت من حضرته وخاطري طيب غير مشجن عليه، فلما وصلت صعدة بشرت الأصحاب بعافيته، هذا يوم السبت أو يوم الأحد، وما زلنا نستعلم من يأتينا من عنده، وهم يذكرون أنه لابأس عليه، فلما كان آخر الأسبوع يوم الجمعة لقيني بعض خواصه عند الظهر، فناولني [كتاباً] بخطه –عليه السلام- هذا لفظه:(3/68)
الحمد لله وحده، [وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم] سلام الله وإكرامه على الفقيه، الأفضل، [الأنبل] : بدر الدين محمد بن علي بن يونس، صدورها ونعم الله واسعة، ومن جملتها ازدياد تلك الزيارة وإطباقها حتى قد بلغت في رقة الحال الغاية، والحمد لله على كل حال، فالدعاء مستمد، وصدرت الخرقة التي وصلت فيها بتلك الفاكهة المحبوبة النافعة، فجزاكم الله خيراً، فقد كان لها تأثير، وبها انتفاع، وأوصينا محمد بن علي النجري يسلم إليكم شيئاً من قبيل المواساة من حق الله [تعالى]، فأما ثمن هذه فأنا أدفعه مما يخصني، وقد أوصيت محمداً في ذلك، وحققته له، ولا أرضى بغير ذلك بعد السلام [والدعاء]، فلما قرأت الكتاب ناولني تلك الدراهم المواساة، وهي عطية جزلة، وقال [لي] : هاك الخرقة، وخبّرني كم ثمن تلك الهدية، فقد شدد عليَّ في ذلك؟ فقلت له: والله ما آخذ منك فيها عوضاً وما قال الله فيما هناك، فإني أودُّ له بعافية ولو بروحي، فقال لي: فيكون العذر منك إليه، فإني أخاف منه ينقِّد عليَّ، فقلت له: أنا أعرِّفه اجتهادك معي، فولى عني من بين السكتين، ولا معه ولا معي خبر أبداً، فما وصلت شق سوق الحدادين في تلك الساعة إلا وقد لقيني عدة يستخبر وني، هل علمت للإمام بمرض؟ فقلت: نعم، له أيام مريض، وهو إن شاء الله إلى خير، فسرت من عندهم قليلاً، ولقيني آخرون سألوني كسؤال أولئك ووجوههم متغيرة، فأجبتهم بمثل ذلك الجواب، فسرت إلى أعلى الصرحة، فلقيني آخرون، وقالوا : بلغنا أن الإمام توفي [في] هذا اليوم، هل بلغك شيء من ذلك؟ فنهرتهم، وقلت: هذا كتابه وصلني(3/69)
من بعض خواصه، فلو كان ثمَّ شجن لأخبرني به فالخبر لا يعديه، ولكن هذا منكم تفاؤل ممن يكره الإمام، فسرت من عندهم قليلاً، فإذا آخرون يتلاكتون، فلما قربت منهم سألني بعضهم، فأجبتهم بجوابي الأول لأولئك مستبعداً لهذه الأقاويل، فإذا بواحد قرب مسجد الذويد يقول إن بريداً دخل المنصورة إلى عند الأمير، واعلم بوفاة الإمام، فما ا ستتم خبره لي إلا [و] وصلني رسول من عند القاضي محمد بن يحيى [بن] مرغم من مسجد التوت يقول لي: أجب القاضي، فإن عنده كتاباً وصله الآن من فللة إليه وإليك، فقلت: من الرسول؟ فذكر لي خادماً من خواص الإمام عرفت به أنه وصل بعلمه، فما ملكت عيني من البكاء، وسرت من فوري إلى مسجد التوت ودموعي تقطر على خدي، ونشيجي يوحي من بعيد، فجئت والقاضي قد انتحب أيضاً من البكاء في محرابه، ومن تلك الساعة إرتجت المدينة بالنواح والصراخ، من النساء والرجال، في كل نواحي المدينة، فخلنا السماء سقطت على الأرض، وبكت عليه المخدَّرات في البيوت، وأهل البوادي، ومن يعرفه ومن لا يعرفه، وخرج الناس إلى فللة معزين على أرجلهم السادة، والقضاة، والشيعة، والأمراء، والخواص، والعوام، فناس وصلوا المشهد بليلتهم، وناس باتوا بأسفل الوادي، وناس جاءوا يوم ثاني، وكثر المعزون من شرق البلاد وغربها، ونحروا عليه من البقر ما لا يحصى، فلما امتلأت [الهجرة بالعقائر]، وتواذن الناس، ورجَّحوا [أن يذكروا] للمعزين استحياء ما جاءوا به، فبقاؤه أنفع من نحره، فامتثل المعزون، فبقي من البقر حياًّ عدة، وتمت الوحشة والروعة بعد موته في الجهات أياماً كثيرة، وذكر(3/70)