تسلّ فما الدنيا إذا ما اختبرتها.... وجدت عليها من بني الدهر ساليا
وكن للأسى والحزن والبثِّ والجوى.... إلى الله حقاً لا إلى الناس شاكيا
رويدك بعض الشر أهون موقعاً.... من الكل فاثبت للمقادير لاقيا
تذكَّر إذا ما صرت في القبر ثاوياً.... بعيداً عن الأهلين والولد نائيا
وقد ذهبت تلك المحاسن وامَّحت.... وصار لهنَّ الترب في اللحد ماحيا
وأفردت للديدان من تحت جندل.... ولم تلق من أمر ينوبك حاميا
وصرت رميماً كالتراب مفتتاً.... مقيماً إلى أن يبعث الله داعيا
وذلك أدنى وحشة وكآبة.... من الحشر والأهوال إن كنت داريا
مواقف يسلبن العقول محارةً.... ويصبح عن روعاتها المرء جاثيا
ونشر دواوين حوت كل واقع.... ونا شرها من كان من قبل طاويا
ونصب موازين فيا رُبَّ راجح.... ورُبَّ خفيف صار بالخسر قاضيا
هنالك إن لم يمنح الله فضله.... فتلقاه غفَّاراً لذنبك ماحيا
فلا وَزَرٌ من بطشه وعقابه.... وإن يعفُ فضلاً منه أصبحت ناجيا

وهذا جوابي الصادر مني إلى حي الإمام -عليه السلام-:
كساك التقى بُرداً من الفكر ضافيا.... فما زال بالتوفيق فكرك صافيا
وصرت بحلب الدهر شطريه عالماً.... خبيراً بما يمريه مراً وحاليا
فما الوعظ إلا ما أثرت عيونه.... ولا الحكم إلا ما توخيت حاكيا
تدبرت أطوار ابن آدم إذ غدا.... جنيناً فمولوداً فطفلاً فناشيا
فكهلاً فشيخاً فانياً ثم ميتاً.... فحياًّ لأهوال القيامة لاقيا(3/56)


فخبّرت عن كل بما يترك الفتى.... بصحبة ذي الدنيا من الدهر قاليا
فيطرحها طرح الكريم لربعه.... إذا خاف فيه سُمَّه والأفاعيا
وينظمها في سلك أحلام نائم.... أطافت فمنَّت في المنام الأمانيا
وإلا سراب قد تراآى بقيعة.... فيحسبه الظمآن ماءً مدانيا
وإلا كظل زائل وكبارق.... بأفقٍ من الآفاق قد بات ساريا
وإلا كوصل الغانيات فإنه.... يزول إذا حلَّ البياض النواصيا
فتباًّ لدنيا لا يدوم وصالها.... لحي وإن أمسى عن الخلق عاريا
وطوبى لقوم عاملوها كفعلها.... وبتوا عراها عفة وتغانيا
وداروا لزاد للمعاد مبلغٍ.... إلى جنة تحوي قصوراً عواليا
أولئك أقوام شروا من إلههم.... لرفضهم الدنيا نفوساً غواليا
كفى واعظاً فيها المشيب فإنه.... يصير لأنوار الشبيبة ناعيا
وسموه في الذكر النذير لأنه.... بقرب ممات المرء يصبح قاضيا
وما بكت الأمجاد شيئاً بكاؤها.... شبيبتها لو ينفع الدمع باكيا
لعلمهم أن ابيضاض شعورهم.... يجئ لمسودِّ من الشعر ما حيا
كما أن مسودّ الثنايا مذكر.... بموت الثنايا البيض من كان ناسيا
وفي موت بعض قبل بعض مخبر.... بكون ممات الكل للبعض تاليا
وما زهرة الدنيا سوى مدة الصبا.... وصحتها أيامها واللياليا
فمهما انقضت يوماً تقضى وراءها.... فيضحي الفتى للضعف فيها مقاسيا
ومن حين ما يبدي المشيب بفوده.... تقعقع منه الشن إذ صار باليا(3/57)


وتنفر عنه الغانيات تطيراً.... بطلعته ينظمن فيه القوافيا
ويُبدلن منه الحسن قبحاً تجنياً.... ويبخلن عنه بالسلام تعاميا
وكان الشباب الرحب أكبر شافع.... وعن أكثر الداعي إليهنَّ كافيا
فلا خير في عمر يرى المرء عنده.... ببنيته نقصاً يسر الأعاديا
وبعد هجوم الشيب للمرء يُبتلى.... بأسنانه ما يعظم الرزء ثانيا
فيتركها ما بين حي وميت.... كثير اعوجاج ليس يبرح وانيا
وحيئنذٍ لا عيش يصفو لآكل.... ولا مشرب للمرء يصبح هانيا
فما حر من هذين أو كان بارداً.... فللألم المخشي يصبح داعيا
وقدِّر بما زالت جميعاً وغادرت.... أخاها كطفل لا يفك البوازيا
يجنبنه ما كان فيه رداؤه.... ويطعمنه ما خفَّ طبعاً تداريا
وما كل شيخ واجداً من يُرَبِّه.... كما رُبّ طفل يصحب المهد عانيا
فقد تعرض الأسفار للشيخ والنوى.... فيختل قانوناً بعيداً ودانيا
فكيف سكون القلب والحال هذه.... وأي طريق يسلك المرء واديا
وأي أمانٍ والحوادث كُمَّنٍ.... تشنّ على نهب النفوس الأمانيا
فلا لوم للباكي الشباب وعصره.... إذا ما بكى يوماً وأبكى البواكيا
وأفدي الذي قد نبهتني عظاته.... فقلت مقيماً إذ سمعت المناديا
دهاني زماني في جزيل عواملي.... ولقىَّ جميع الناس مثلي الدواهيا
فكم موجع مثلي يبيت مسهداً.... ويضحي بنيران التقلقل صاليا
يحاول بثَّ البعض مما أصابه.... وأحمى كراراً في حشاه المكاويا(3/58)


فيعذره نظم القريض مرصعاً.... رقيق المعاني عسجداً ولآليا
ويبقى كظيماً ليس يملك قدرة.... يعبِّر عما صار في القلب ثاويا
ولا يستريح المرء من بعض غمه.... بغير انحدار الدمع دراً جمانيا
أو الشعر يمشي حيثما شاء طائعا.... يَبين به ما كان في الصدر خافيا
كما قد تراه في نظام إمامنا.... يوحِّيك أوصاف الأمور كما هيا
ويرمي به عن قوس كل إرادة.... وما كل قوَّال يصيب المعانيا
ولا كل بحر كالفرات حلاوة.... وفيضاً ولا كل النجوم دراريا
ولا كل قار للحواميم نافعاً.... ولا كل داع للبرية هاديا
ولا كإمام العصر تلقى مهيمناً.... بكل مجال في الفصاحة داريا
تصفَّح إذا ما ارتبت ديوان شعره.... تجده لأنواع البلاغة حاويا
ويكفيك عن طول قصير مقاله.... إذا كنت من أمر ينوبك شاكيا
إلى آخر الآبيات تعلم أنها.... حكت لاتساق النظم وشياً يمانيا
معان كنشر الروض يفصح عرفها.... ذكرت دياراً دار سات خواليا
وقد شملت معنى مقالة قائل.... تعزَّ فلا شيء على الأرض باقيا
وأومت إلى شِعْرَي إمامين قدِّسا.... فوعظهما قد كاد يملا النواحيا
يعني بالإماميين: حي الإمام أحمد بن سليمان، فإن له قصيدة على هذا الروي والوزن أولها:
دعيني أطفي عبرة ما بدا ليا.... [وأبكي ذنوبي اليوم إن كنت باكيا]
وعارضها حي القاضي نشوان [بن سعيد]، فقال:
ذكرت دياراً دارسات خو اليا...إلى آخرها.(3/59)


والإمام الثاني هو: [الإمام] المهدي أحمد بن يحيى [بن] المرتضى صاحب (الأزهار)، و(البحر الزخَّار)، و(الغيث المدرار)، فله أيضاً قصيدة على هذا الروي والوزن أولها:
دعيني إذا شاهدتني اليوم باكيا
وهي مشهورة أيضاً. انتهى.
ومن أشعار حي الإمام عز الدين عليه السلام اللاتي عوَّل عليَّ أن أعارضها بما يجانسها: قصيدة فريدة أنشأها يتشوق إلى بلاده، ويذكر أنه لايبرح شوقه مستمراً، إن كان بالشام اشتاق إلى أهله باليمن، وإن كان بأرض اليمن فكذلك فقال:
أفق أين ما وجهت صرت مفارقاً.... ولم تلق فيما بين حاليك فارقا
تسرّ بأن تلقى حبيباً ومنزلاً.... عقيب افتراق صار للقلب غارقا
وما نلته إلا بفرقة منزل.... وأهل ووُلْد وافتقادك وامقا
فتصبح مسروراً هناك وواجداً.... وصدرك مسروراً هناك وضائقا
فيا جامع الضدين والوقت واحد.... لقد جئت شيئاً للعوائد خارقا
ألا هكذا الدنيا مشوب سرورها.... وما منحت صفواً من العيش رائقا
إذا ما حلت مرت وإن هي أحسنت.... أساءت وتعطي السؤل بالسوء لاصقا
نهضنا إلى كحلان والشوق لم يزل.... لنا قائداً وسط الطريق وسائقا
فلما بلغنا ما نريد ولم نجد.... عن القصد عن لقيا الأحبة عائقا
وجدنا التلاقي والتداني وقربنا.... عقيب ابتعاد والوصال الموافقا
أفاد التنائي والتباعد موجباً.... فأمسى الأسى والكرب للقلب طارقا
إذا ما رأينا من لدينا أحبَّة.... محاسنهم زهر تحوز المرافقا(3/60)

172 / 205
ع
En
A+
A-