جانبنا، وجواب هذا: أنا أقسم بالله قسماً مبروراً جامعاً لوجوه الأكادة كلها لو وصلتنا بسلامتك إلى حد جهاتنا على غير ميعاد ولا مواطأة ولا مؤامنة ما قابلناك إلا بالجميل، فكيف على مثل هذا الوجه هل يظن في إمام المسلمين أنه يغدر؟! والله لو كان يحصل لنا بذلك ملك الدنيا بين أقطارها شامها ويمنها وشرقها وغربها مالقينا الله بغدرة واحدة، ولا رضينا بأنفسنا أن تسوَّد وجوهنا في الدنيا والآخرة، وتبقى لنا كلمة العيب ونحن في قبورنا، ومع هذا فنفعل ما تطيب به نفوسكم، وما سمتمونا إياه من الوثاقة الأكيدة على كيف ما أحببتم، وكذلك ما سمتم من الوثاقة على المشائخ بني حذيفة ومن اخترتم منهم على طريق الضمان والارتهان، [وربما] تخافون من القبائل، ويقال: إنهم يفعلون ويصنعون، وأنهم لا حكم لنا عليهم، وبالله العظيم لو اجتمع في فللة جميع قبائل خولان، ووصلت بسلامتك وحدك على وجه بيننا وبينك ما تمكنوا من مدَّ يد، ولا خطر لهم [هذا] ببال، وإن منهم من هو قاتل لغيره إلى حد مائة قتيل، فإذا سايره درسي من درسة مشهدنا، أو خادم من أطرف خدمنا سار على باب خصمه ما يخافه، وقد وصل إلينا أولاد العليي قاسم بعد وقعة الصعيد، وهم قاتلون للقبائل وسالبون لهم، وساروا في بلاد خولان طولاً وعرضاً إلى يسنم وغيره [معنا و] وحدهم، فما رفع إليهم رأس، ولا مدت إليهم يد، ووصل من أولادكم بسلامتكم من وصل مرة بعد مرة، فأسألهم عن ذلك ولكن فما يقول لك المغري والمبعَّد، ومع هذا فينزل إليكم من كبار بني بحر وبني جماعة من أردتم، وإن لم يطب للمقام بسلامته دخول وادي فللة(3/51)
لاعُلاه، ولاوسطه فغيره من الأماكن المتحرزة الموافقة المتسعة للاجتماع ولواحقه من الإطعام وغيره، هذا إن كان للمقام -حفظه الله- رغبة في الإتفاق الذي نرجو أن يكون سبباً للخير الدنيوي والأخروي، وبالله ما نضمر لكم في ذلك غشا ولا يتعلق [لنا] به هوى ولا غرض لأنفسنا، ولا قصدنا إلا صلاح دينكم، ومصلحة المسلمين، ورضى رب العالمين :{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود: 88]، وما أكثرنا الكلام، والمراجعة قبل الانتقال إلى فللة من قبيل التراخي والبطاء ومحبة المماطلة بالقرب إلا أن تلك الجهات كما تعرفون، [و] مع التقارب يزيد أهل المباعدة فيها، فأردنا إحكام الكلام ونظمه ليقع الوصول، وقد صلح الأمر -إن شاء الله تعالى-، ولئلا يقع وصول إلى فللة بتعذر الالتقاء، فيكون [في] ذلك مزيد قالة، فأجب بما تراه صواباً بعد استخارة الله سبحانه [وتعالى]، واستشارة أهل الخير ومحبي الخير، فما ندم من استشار، ولا خاب من استخار، ونعيذك بالله من شياطين الإنس والجن، ونسأله صلاح الحال والشأن إنه جواد منَّان، بعد السلام.(3/52)
قلت: فانظر إلى هذا الكتاب كيف جمع ما جمع واتسق على هذا النسق والمواجهة مستمرة، وهو يصغي إلى كل واحد على حدة، ويقضي لكل غرضه، ويده تكتب هذا الدر المنظَّم الموشَّى والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء فهذا أسلوبه من الترسل البديع مع الخط الجيد الذي أقرَّ له فيه كل رفيع، وأما شعره فرائق فائق، حوى ديوانه منه ما اتفق على جودته أعيان الخلائق، والكاشح والوامق، وقد قسم شعره عليه السلام قسمين :
أحدهما: ما قاله وهو سيد.
و[القسم] الثاني: ما قاله بعد الدعوة، وهذا القسم من شعره قلما أنشأ شيئاً منه إلا وراسلني به كله أو بعضه، وحثني على الإنشاء على وزنه وقافيته، طلباً للمفاكهة والمطايبة وتكثير الفائدة في العاجلة والعاقبة، فمن ذلك قصيدة قالها ترثية لأسنانه، وقد أضرَّ به وجعها في آخر زمانه، ولما أكملها أرسل بها إليّ قبل يعلم بها أحد، وعوَّل عليَّ في عراض على وزنها، وعلى نهجها، فامتثلت ما أشار إليه –عليه السلام- وأرسلت به إليه، فعاد إليَّ منه جواب هذا لفظه بعد البسملة، وذكر اسمه - قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه -:
السلام الأسنى، ورحمة الله الحسنى على الفقيه الأفضل، الأمجد الأكمل، عين أرباب البلاغة، [و] المزري حقاًّ ويقيناً بابن المراغة، بدر الدين، خلاصة الإخوان الراشدين، والله يمتع بحياته، ويسعده في جميع أوقاته، وعلى كل حالاته، وبعد..(3/53)
فورد كتابه الكريم، مصحوباً بالنظام الجليل الفهيم، الذي يفوق ويروق الدر النظيم، فلقد وقفنا عليه وقوف ناظرين بعين التأمل إليه، فوقع مناَّ موقعاً فوق كل موقع في حسن الرغوبة، [ومعظم العذوبة]، والنشق المستطاب، فحكمنا عليه بأنه من أحسن المنظومات، وأجل المرقومات، ومن عجائب الاتفاق أنه دفع إلينا وعندنا أعيان من حوالينا على مأدبة كبيرة، فحملنا الإعجاب به على ذكره والتنويه بقدره، وسلمناه إلى الفقيه وجيه الدين: عبد القادر بن محمد، وعولنا عليه أن يجربه على حلة من الإنشاد نحن نستلذ بها منه غاية، ففعل بتلك الحضرة المباركة، فأعجب منه الحاضرون، ورفعوا من شأنه، وشأن منشيه واستدعوا بالابتداء، فأنشد من بعد، ولعمري أن هاتين القصيدتين، ولا سيما جوابكم جديرتان بأن يدونا في الأوراق، وتداولهما الأيدي في الآفاق، ولكنه والله قَّل في زماننا من يقدّر البلاغة حقَّ قدرها، ويوليها ما ينبغي لها من تعظيم أمرها، وأما أنت بسلامتك فقد ارتقيت منها محلاً عالياً، وأوتيت منها حظاً وافياً، وفُقت بما أوتيت من مجملاتها بالإطلاع على غرائب التواريخ ومستبدعاتها، ومع ذلك فما زلت قائماً بحق ما تنظمه وتبدعه من أنواع النظام، ومحسناً لأجوبتها، ورافعاً من شأنها على مرِّ الأيام، ولقد ترك الأوائل للأواخر، وما خلا زمن عن أهل المقال الفاخر، الله تعالى يتجاوز عناَّ فرطات اللسان، ويتقبل ما وافق مراده في هذا الشأن، ويختم بخير، والسلام، والدعاء مستمد.
وهذه قصيدة الإمام عز الدين -عليه السلام-:
إذا كنت من قرع الحوادث شاكياً.... وأصبحت من خطب ينوبك باكيا(3/54)
وصرت لميت جلَّ عندك رزؤه.... له نادب بين الأنام وراثيا
وأولى وأحرى بالمراثي وبالبكاء.... إذا صار بعض منك ميتاً وفانيا
فلا خير في عيش وبعضك ميتٌ.... وإن كان بعض منك حياً وباقيا
فيا عين جودي بالدموع لعلها.... تهوِّن وَجْداً في الجوانح خافيا
وبكيّ على بيض عوامل ثنيت.... حداد شداد واضحات صوافيا
بثغر يروق الناظرين رواقه.... ومبتَسَمٍ يجلو لمن كان رائيا
نعمت بها عصر الشباب ممتعاً.... تنيلك في اللذات ما كنت باغيا
لها أثر فيما يرام بقوة.... عظمن بها نفعاً وطبن مساعيا
فأخنى عليها الدهر بعد كهولة.... وبعد اشتعال الرأس شيباً ملاليا
فقد أصبحت نصفين ما بين ميت.... هوى وثوى لا يبعد اليوم ثاويا
تلا آخر منها إلى الموت أولاً.... وتسع أجابت قبلهنّ ثمانيا
فمنها قليعٌ بالدماء مضرجٌ.... فأزعج مقهوراً وما كان راضيا
ومنها صريع موته حتف أنفه.... أهاب به داعي المنون مناديا
وبين سقيم لا دواء لسقمه.... عليل فلا يلقى طبيباً مداويا
فلا ثابت في أصله ومقره.... ولكنه أضحى مريجاً وواهيا
ولا سالم من صفرة وكدارة.... بلى صارعن تلك الإثارة خاليا
ولا نفع فيه عند رطب ويابس.... إذا لم يكن كل الرطوبة حاويا
محاسن كانت فاضمحلت وآذنت.... ببينونة عنها وعادت مساويا
وفيها قوام الروح والجسم عمره.... فأيُّ نماءٍ بعدها صرت راجيا(3/55)