تنبيه:ولما دارت السنة بعد دعوته المباركة المستحسنة، ودخل من السنة الثانية محرم، رأى الإمام كثرة من انقاد له من القبائل والشيعة، وافتتاح الجهات التي أهلها غير مدولة وكان دولة صعدة هم الأشراف بنو حمزة، والجهة متقاربة أعني جهة صعدة [وفلله] استرجح دعاءهم إلى طاعته ومبايعته، وتسليم الحقوق إليه وإقامة الجمعة في بلادهم من دون معارضة منه لهم في مملكتهم، فاستثقلوا الأمر وما ظهر له منهم إسعاف، بل عوَّلوا على معارضة ابن يوسف له، وخطبوا له بصعدة كما تقدم، [فكثر] من خولان وغيرهم من الأجناد الوعد للإمام بالنصرة له بالأموال والأرواح وغيرهم، وقد اجتمعوا معه [ما يبلغ] فوق خمسة عشر ألف راجل، ومن خيل القبلة وغيرهم فوق مائة فارس، فعمد صعدة في شهر صفر، فاستقام لهم الأشراف حتى أقبلوا من نسرين كالجراد منتشرين، فما هو إلا أن تراآى الفئتان، فنكص خولان وأهل القبلة منكسرين وولوا مدبرين، وبقي الإمام –عليه السلام- يقول: يا قوم، مقبلين مقبلين، وهيهات الالتفات إلى فرسان الحمزات، فانتهبت محطة الإمام، واستولى عليها الأقوام، فيما تحط الجفون على العيون، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وقتل من الناس ما يقارب السبعين، وسلم الإمام عليه السلام وإخوته وأولاده، وتحيَّر جماعة من مواده في حصن بني حي، وما حوله من القهران، حتى حصل لهم من الأمراء الأمان، ورفع السيف عمَّن بقي بذلك المكان، ونزلوا بأمانه، فسلب من سلب، وعطب من عطب، وكان السلب لمن هناك مستمراً إلى اليوم الثاني، وما قتل من دولة صعدة رجل واحد، ومن تلك الساعة ضعفت شوكة الإمام(3/46)
وجنده حتى دارت سنة، وناوشهم القتال من فللة ومن جهة الظواهر، فأما فتنة فللة فما أثرت شيئاً، بل رتَّب الأمير عليهم رتباً حصرتهم من داخل، ومن خرج [منهم] إلى الصعيد قتل أو سلب، وأما فتنة الظاهر فأثرت طرف أثر، في خلال ذلك أخذ الإمام عليهم حصن الميقاع والعظيمة ببيعه، واستمَّرا في يده إلى أن مات، وصارا في يد ولده الحسن طول مدته، وكان بعد أخذه للميقاع انبسطت يده على بعض [بلاد الأشراف في الظاهر] كبلاد بني صريم، ووادعة، وبلاد قاعة، واضطر الأمير محمد إلى مخرج بعد مخرج؛ لارتجاع شيء من هذه البلاد، فلم يقدر، بل قتل من عسكره من قتل في مرار متكررة، وفي عرض ذلك، [و] دار من دار بين الإمام والأمير بصلح مدة، فقال الإمام: لابأس بذلك، لكن نلتقي نحن والأمير، فكاد الأمير أن يساعد للقاء، فخَّوفه بعض جلسائه من موافقة الإمام لعلمهم أن الأمير مطواع، كريم طباع، فأشفقوا عليه أن يتفق هو والإمام فيحسن الإمام علاجه، ويستميله إلى طاعة الله وطاعته، ويقع في ذلك معادلة وموافقة على القانون المرضي، وتسقط مراتب جلساء الأمير إذ هم ظلمة قد أكلوا البلاد والعباد، والإمام ما عليه [كبة] كغيره، فلم يكن لهم همُّ إلا المباعدة بين الإمام والأمير من الملقى، وأعملوا في ذلك كم من حيلة، وقالوا للأمير: إن المراسلة بالكتب ومشافهة رسلك للإمام يكفي بما في نفسك فلقد كنت عند الإمام يوماً، وقد جاءه رسول من الأمير يذكر أن الأمير قال يحب يلقاه إلى أي الصعيد، فكتب إليه –عليه السلام- كتاباً على الفور، وهو في مراجعة لعامة الناس، فكان في خلال كتابته(3/47)
لذلك الكتاب، وهو يصغي إلى كل من دخل ويقضي غرضه، ويده الكريمة مستمرة على جوابه على الأمير، فلما أفرغه ناولنيه، وقال لي: قصه فما يحسن منَّا نأمر به قبل قصاصته، ولا فَرَغتُ لذلك من كثرة ما تراه من المشادة، فلما قرأته إلى آخره، فلم أجد فيه حرفاً زائداً، ولا حرفاً ناقصاً عن المقصود، فحار فكري في استقدار هذا الإمام على إنشاء هذا الكلام في هذا المحضر العام، واستيفائه لجميع المقصود في هذا المحضر المحشود، فقلت [له] :يا مولانا، ما وجدت إلا ما تقرُّ به العيون، ومن الكمال فوق ما تظنُّ به الظنون، ولقد أذكرني كتابك هذا كتاباً حكاه الفقيه الشهيد حميد المحلي في (الحدائق الوردية) عن المنصور بالله أنهم كانوا عنده في محفل مثل هذا، فرأوه يكتب كتاباً طويلاً، فلما أفرغه أوقفهم عليه، فرأوا من جمعه وحسنه واحتوائه على علوم جمة وفوائد مهمة ما أكلف بعض الحاضرين، أن قال للمنصور [بالله: الله] يفعل لك ويصنع، وأطنب في مدحه، ثم قال: والله -يا مولانا- إني أخاف أن تكون دعوتك وكمالك للقيام بها سبباً في عدم القول بمن يدعو بعدك من أهل البيت، فقال المنصور -عليه السلام -: ولِمَ يا فلان؟ فقال له: لأن الناس يطلبون من القائم بعدما قد ألفوه منك من الكمال في جميع الخصال، فلا يجدون منه ذلك، وكان سبباً في عدم القول به، فأعجب المنصور كلام ذلك المتكلم، وأظنه الشيخ أحمد بن الحسن الرصاص، فلما أتممت كلامي للإمام [عز الدين]، قال لي: يا فقيه بدر الدين، الحال قاصر، الحال قاصر [الحال قاصر] ثلاث مرات. انتهى.(3/48)
وقد ترجَّح لي ذكر هذا الكتاب [هنا] أعني كتاب الإمام عز الدين إلى الأمير، ولفظه بعد البسملة: تحيات الله وسلامه وإنعامه وإكرامه، وتظافر بره وإكرامه، على الأمير الكبير، الخطير الشهير، سيد الأمراء، وبدر بيكار أهل الرئاسة من بني الزهراء: محمد بن عز الدين بن أمير المؤمنين، والله تعالى يقيه كل سوء ومكروه، وينيله من الخيرات والقربات ما يؤمله ويرجوه، ويجعل أيام ولايته وإجابته مسفرة الوجوه، وبعد.. فصدوره وكل علم سار بحمد الله بعد أن وردت كتب كريمة من تلقائه من الأصحاب، ووفد القاضي بدر الدين، وذكروا جميعاً ما دار بينهم وبين المقام من ذكر مكان الإتفاق، وكونكم بسلامتكم ذكرتم أن يكون في الخلاء [و] على الصعيد، وأن دخول الوادي ما يوافق خواطركم الكريمة، -واعلم حفظك الله- أن الله سبحانه قد حبب إليك جانب الحق، وألقى في قلبك ما ألقاه من [المودة و] المحبة وحسن الميل إلى الأخذ بنصيب من عروته الوثقى، فهذا من كمال حظك، وعلو بختك، فإن الدنيا أمرها يسير، والخطر فيما أنتم عليه خطير كبير، والتخلص بغير طريق الإمامة عسير، والموالاة من خير الدنيا والآخرة، ولما عرفنا ذلك منك انشرح الخاطر، وانفتح إلى جنابك، وعظمت منزلتك عندنا، وصرنا ندعو لك كما يعلم الله عالم الغيب والشهادة، وما هذا منَّا لغرض دنيوي فتعويلنا على الدنيا قليل، وما قمنا إلا لله، ولرجوى ما عند الله، لكنَّا نفرح ونسترُّ بما يفتح الله به على أيدينا من الهداية والصلاح والرشاد، والخروج من غضب الله وعذابه حتى إذا فتح الله بهداية واحد من أطراف الناس سرنَّا بذلك، وأما أنت(3/49)
بسلامتك، فأنت من كبراء الشرفاء وقادة الأمراء، وبصلاح الحال فيما يتعلق بك يصلح على يديك، ويهتدي عالم من الناس، والله سبحانه يصدق الأمل، ويصلح النية والعمل، وقد قضت حكمة الله بأن هذه الدار يكون فيها شياطين الإنس والجن، وأنه يوحي بعضهم إلى بعض كما ذكر [الله] في كتابه الكريم، ولما كان هذا الأمر من أبلغ الأمور في الدين عظم اكتراب الشياطين، وصاروا يعملون الحيل في تبعيده، ويتعاونون في ذلك، ويوحي بعضهم إلى بعض، وإذا عسر عليهم العلاج من وجه دخلوا من وجه آخر، لما لم تسعدهم بسلامتك إلى ترك هذا من أصله، رجعوا إلى هذه الأمور، وحاولوا المحق منها، وأنت تعرف وذويك أنه ما يلتقي إلى الخلاء وتحت الأشجار إلا البدو، ومن في حكمهم يتصارخون ساعة، فإن سدَّوا وإلا ضربوا ميعاداً آخر وتفرقوا عشية يومهم، وأما مثلنا ومثلك، فلا يسعهم إلا الأماكن المأهولة للاجتماع، والمشاورة مرة بعد مرة، وفي ليل و في نهار، ومن معنا ومعك على كرامة، وإضافة، وجميل، وأن تعرف -حفظك الله- أنك تصل إلى وطننا، فهو للمسلمين أجمعين، ونصيبكم فيه الوافر، وأنتم بنو عمنا وإخوتنا وما في ذلك غضاضة بل جمالة، وإن لم يطب لك ذلك فبعض قرى فللة، ففللة لنا ولكم، والهدوي والحمزي، وأنتم فيها أهل مكان ووطن، وأهل الوادي لهم إليكم ميل ومحبة، واختر في وسط الوادي قرية واسعة تختار من بيوتها ما يصلح للالتقاء والإطعام، وأنزلنا إليها من يباشر أمر الطعام، وما ترون من الأمر إلا ما تطيب به النفوس، وتقر العيون إن شاء الله ونحن نذكر ما قد قيل لكم، ونذكر جوابه ربما أنكم مخوفون من(3/50)