فكان الأمر بحمد لله كما رجى، ووقع لها موقع في قلوب أهل الحجا، [ولقد تحيرت في فضله وعلمه ومكارمه العقول، فلله القائل فيه حيث يقول في مدحه -عليه السلام-:
لو كانت الأشجار أقلاماً ولو.... أن البحار جميعهنَّ مدادُ
لم تبلغ الكتَّابُ عشر صفاته.... بل ما لعشر العشر فيه نفادُ]
فلما دعا فرح الناس بدعوته غاية الفرح، فكان أول من بايعه والده المبارك، شرف الدين: الحسن بن أمير المؤمنين، وسائر إخوته، وبني عمه، ثم من حضر من العلماء، ثم القبائل، قرئت عليهم دعوته الكبرى، العامة لكل الورى، وفيها من البلاغة الرائعة، والحجج القاطعة، والمواعظ الحسنة، والفضائل المستحسنة، والاعتذارات من القيام أولاً، ثم توفر الدواعي والبواعث أخرا ما يشهد بتقدمه وصدقه، وإصابته، وأن إحجامه وإقدامه كانا نظراً للدين والأخذ بحقه، وتفادياً للمذهب من الغشم ورقته، فلما وصلت دعوته إلى الجهات اليمنية مثل صنعاء ومشارقها، ومثل ذمار وما حولها يمناً وشرقاً وغرباً، ومثل المغارب من حجة وبلادها، ومثل شظب وبلاد الأهنوم، والشرفين إلى حدود تهامة، ومثل جازان، وضمد، ودساع، وتلك النواحي، واجتمع بهم في بلاد الأهنوم وسايروه إلى السودة، وما بقي أحد ممن له يد في العلم إلا وصله في هذا المخرج المبارك، فأوردوا عليه من الأسئلة في كل فن ما ملأ الطروس، وشافهوه بجميع ما يعرض في النفوس، فجاوبهم بما شفى الأوام، وجلَّى دياجير الظلام، فلما صحَّت لهم الحجة ودلَّهم على المحجة بايعوه وشايعوه، وعاضدوه ونافعوه، وكان هذا الملقى بعد مضي نصف سنة من يوم دعا، وكان فيه من أعيان شيعة(3/41)
صعدة: الفقيه علي بن عبد الله الرقيمي، وبقيتهم أطاعوا الإمام، وما حصل لهم الخروج من صعدة؛ لأن الأمير [محمد بن الحسين ] أخافهم، فما خرج منهم إلا من خاطر بنفسه، وكنت أنا من [الحاضرين] المخاطرين، فسلم الله، ورجعت صعدة ما حصل لي أذية بحمد الله، فأما القاضي العلامة: محمد بن يحيى بن مرغم، وغيره من أعيان شيعة صعدة وساداتها، فإنهم لما تخوَّفوا على أولادهم [وأموالهم] استأذنوا الإمام سراً في الفسح لهم في التقية والبقاء في صعدة، فأذن لهم لمعرفته بصدق عذرهم، فلما التقينا نحن وعلماء صنعاء في بلاد الأهنوم وتقدمنا إلى السودة، وقد طابت خواطر اللاقين لنا من أهل اليمن، باختيار الإمام –عليه السلام- استأذنوه في التقدم إلى جهاتهم، فأذن لهم بعد أن بايعوه، وصارفوه، وأخذوا منه ولايات عامة وخاصة، وكانوا فوق مأتي رجل مشهورين بالعلم والعمل، وسائرهم من ذريتهم، وقبائل بلادهم الأعيان مثلهم أو أكثر، وكان ممن لقي من وجوه علماء صنعاء القاضي، العلامة: محمد بن أحمد بن مرغم، والفقيه: علي بن زيد، والفقيه، الأوحد، الأمجد، شحاك الملحدين، ولسان المتكلمين: علي بن محمد البكري، وهو شيخي في النحو، وأصول الدين، والفقيه، الأفضل، الصدر: يحيى بن صالح العلفي، والفقيه أحمد بن محمد الخالدي ما حضر، لكنه اعتذر بمرض عاقه، فكتب يخبر به ويتأسف على عدم الملقى، لكنه لما صحَّ لقي الإمام في ذلك المخرج، وممن لقيه الفقيهان، الأخوان، العالمان، العاملان: أحمد، ومحمد ابني الفهد الكحلاني، فأحمد لازم الإمام حتى استشهد معه في يوم نسرين، وقبره(3/42)
[مشهد] مزور مشهور بالقرضين، وممن لقي: جماعة من فقهاء الحيمة، والشاحذية، وآنس، وهجرة عرة ثومان، وأكثر من لقي من الأعيان أهل صنعاء كما تقدم؛ لأن صاحب صنعاء وهو المؤيد برب العالمين أذن لهم، فجسروا على الخروج، فلو منعهم كما منع الأمير شيعة صعدة لاعتذروا كما اعتذرت شيعة صعدة، وكان هذا الملقى من أحسن الملاقي لما وقع فيه من المراجعة والمناصفة والاستظهار بالكتاب والسنة على جمع الكلمة، وقد كان عدة من الناس –أعني من في قلبه ريبة- يظن أن الناس ينفرون ويفترقون وينقلبون، وقد تأكدت الشبه في قلوبهم بسبب تقدم دعوة ابن يوسف، كون صاحب صنعاء يهوى ذلك باطناً، فأبى الله إلا أن يتم نوره ويجمع الكلمة لهذا الإمام، فأطاعه العباد، ودانت له البلاد، ووقع لدعوته من القبول والإقبال مالم يكن يخطر ببال، واعترف له بذلك الموالف والمخالف بالعلم الغزير وجودة التدبير، وكذلك بالكرم الجم الذي يغطي [على] موجات اليم، فلقد سمعت أنا عدة ممن خالط الملوك في صعدة وصنعاء وسائر بلاد اليمن يقولون:إنه لا يوجد لأحد طعام معد لجميع الوافدين في كل حين من ملوك نواحينا مثله، وكذلك من سايره في مخرج أو محطة لا يكاد يجوع، وعادة المحاط بخلاف هذه الصفة، وروى لي هذا الإمام –عليه السلام-: أن رجلاً من أعيان جند صنعاء من بني عم محمد بن عيسى الملقب شارب، وصل إلى الإمام وهو على عزم مخرج، فرآه يخرج ما يحتاج إليه أهل المحطة من مخازينه في أسرع وقت، فقال له: العجب إنا في صنعاء، وهي أم المدن إذا رمنا مخرجاً مثل هذا احتجنا إلى أن نسخر كل أهل حرفة، ونؤذي أهل كل راحلة،(3/43)
ولا يكاد يتهيأ لنا شيء يقارب هذا إلا في مدة طويلة، وبعد بلشة لكل من إليه شيء من ذلك، ثم إن هذا الإمام انفرد عن أكثر الأئمة بخصال لم تجمع إلا فيه، وهي: الخطابة، والبراعة في العلم، وعدم الملال والكلال لذلك ليلاً ونهاراً، وسحراً وسمراً، وسفراً وحضراً، حتى أنه منذ دعا إلى أن توفي إلى رحمة الله ورضوانه، لا حصر لكتبه ولا نهاية، ولا يفرق أحد بين تراكم أشغاله بالترسل والكتابة بين أول دعوته وآخرها، بل ذلك يستمر، فلو جمع ما قد رقمه بيده مما يزري بالدر المنظم، وزهر الربيع المنمنم، لجاء مجلدات تزيد على ثلاثين مجلداً، فما أحقه بما قيل:
إن هزَّ أقلامه يوماً ليعملها.... أنساك كل كمي هزَّ عامله
وإن أقرَّ على رقّ أنامله.... أقرّ بالرقِّ كُتَّاب الأنام له
وكانت كتبه في أكثر الأحوال تقوم مقام المخارج العظيمة، فكم لعدوه بعد وصولها إليه من هزيمة، فهو أحق بقول من قال:
ولقد تخوِّفك العدو بجهده.... لو كان يقدر أن يردّ مقدَّرا
إن أنت لم تبعث إليه ضُمراً.... جرداً بعثت إليه كيداً مضمرا
خطروا إليك فخاطروا بنفوسهم.... وأمرت كتبك فيهم أن تخطرا
عجبوا لجندك أن يجول بسطوة.... وزلال خلقك كيف عاد مكدِّرا
لا تعجبوا من رقة وقساوة.... فالنار تقدح من قضيب أخضرا(3/44)
ولقد وقفت على كلام في تصنيف حكي فيه سيرة لبعض بني العباس، بالغ في وصف [حسن] خط ذلك الخليفة، وتعجَّب من إحاطته بقلمه لنظم جميع مملكة العراق، وأن قلمه كفاه عن المخارج الجسام، فقال: فيه أفكاره الكريمة مصروفة إلى عمارة آخرته وعليها موقوفة، وهمته الشريفة بالالتفات إلى تقرير رعيته مشهورة [و] معروفة، لا يضجره منهم كثرة الرغبات، ولا تواتر القصص الواردات من سائر الجهات، ولا يخل مما يرفع إليه بمجالس العرض المقدسة بتأمل قصة واحدة، فيشتغل قلمه الشريف بالإجابة عن كل دقيقة وجليلة وكل رغبة ووسيلة، فكان في عصره الذي هو في جلالة القدر أي عصر كما قيل: "لا يشتغل بالصدر إلا الواسع الصدر"، فما شغله كثرة معاناته للأمور وتفقد أمر الجمهور، وكثرة الأسفار والحركة والتزحزح عن مقر الإمامة العظيم والمملكة، وتفقد أمور الدين، والعكوف على تحصيل مصالح المسلمين وضيق أوقاته العزيزة بالمتجددات، وتوزيعها على النظر في المهمات عن كتابة مقدمة من القرآن العظيم بخط يده الشريفة، أبرزت إلى الديوان العزيز تقرأ في جميع الأوقات، وفي مجالس الجمع والجماعات.
قال مصنف السيرة العباسية: وهذه منقبة مبتكرة من أجلِّ المناقب لم يؤرَّخ مثلها عن الأئمة الماضين، ولا عن غيرهم من الملوك والسلاطين.
قلت: فانظر إلى مضمون هذا الكلام، وقصه على سيرة هذا الإمام تجده قد استوفاه بالكمال والتمام، فإنه نسخ مقدمة تقرأ في كل حين، ويتداولها جميع الصالحين والمفلحين، من غير (ما) كتب في كل فن من العلوم، كأنها الدر المنظوم، فغطى نورها نور النجوم.(3/45)