[أخبار الإمام عز الدين بن الحسن -عليه السلام-]
فصل: في ذكر مولده ونشأته [ومدته].
ومدة طلبه للعلم الشريف، ومدة ولايته، وما يلحق بذلك من ذكر أولاده، ووالدته، [ووفاته]، وموضع قبره -عليه السلام-، وغير ذلك من أحواله، وذكر مصنفاته، ورسائله، وبعض أشعاره على سبيل الاختصار إذ استيفاء جميع أموره يستغرق مجلدات عدة.
فنقول: إنه -عليه السلام- ولد بأعلى فللة في درب ابن الباب لعشر ليال بقين من شهر شوال من سنة خمس وأربعين وثمانمائة، وكانت دعوته في شوال كما تقدم، وهذا من النوادر، ووقوع الحافر على الحافر، وأمه الشريفة، المكرَّمة، المعظَّمة، ذات المنصب الشريف، والحسب المنيف اسمها: ماريه بنت محمد بن يحيى بن عيشان من آل عيشان، ثم من آل زيد بن المليح من بني الهادي -عليه السلام-، وهي من المنجبات، فإنها أمه وأم أخيه الهادي عليه السلام بن المؤيد الذي تقدم ذكره، فيمن استشهد مع الإمام مطهر في رتبة عبس من أرض تهامة، ولله القائل، وهو مهيار بن مرزويه:
إذا رأيت كريماً صحَّ مذهبه.... فاقطع بخير على أبنائه النجب
نشأ هذا الإمام منشأ آبائه الكرام، وقفا منهاج أسلافه الأعلام، فهو كما قال [الإمام] المنصور -عليه السلام-:
نشأته طاهرة إذ نشأ.... يقفو على نهج أبيه علي(3/36)
لم يزل منذ عقل إلى أن كمل مُولِعاً بالعلم وتحصيله حتى فاز منه بالأبكار والعون، فأتى منه بما تقرُّ به العيون، ابتدأ طلب العلم في وطنه ثم قصد صعدة، فقرأ فيها على شيوخ عدة، رئيسهم وأشهرهم القاضي العلامة: علي بن موسى الدواري أخذ عنه أكثر الفنون، وصنَّف فيها، وما قد تمَّ له من السنين عشرون، ثم ارتحل إلى حرض من تهامة لسماع الحديث على حي الفقيه، العالم، المحدِّث، شيخ السنة النبوية في وقته: يحيى بن أبي بكر العامري، فسمع عليه (سنن أبي داود) وغيره، واستجاز منه أكثر مسموعاته، فلمَّا قَفَلَ من سفره وقد انتهى إلى غاية وطره، لم يزل يترقى في العلوم، ويدمغ هامة الموهوم والمعلوم، حتى برع في كل فن خصوصاً علم التوحيد والعدل، فإنه كان فيه أوحد زمانه، برز فيه على أقرانه، وصنَّف فيه شرحاً على منهاج القرشي سماه (المعراج على المنهاج)، أتى فيه بما يشهد له بالتحقيق والتدقيق، واعترف له بالإجادة القريب والسحيق، أكبَّ على قراءته عليه بعد نسخه وتحصيله أعيان الزمان، وجاءه لسماعه جماعة من نواحي جهران وذمار وخبان، فحدث بذكر هذا المصنف الركبان، حتى بلغ الصفراء وينبع، وتلك البلدان، وله مصنَّفات غيره في سائر الفنون، وفي آخر مدته أخذ في جمع شرح على (البحر الزخار)، ثم أقبل على جمعه والاشتغال به الليل والنهار، واستحضر لذلك عدة كتب مما يتعلق بذلك من فقه، [وأصول فقه]، وأصول دين، ولغة، وتفاسير، و(جامع الأصول) لابن الأثير، وغير ذلك مما يستدعيه كتاب (البحر)، وسلك في ذلك أسلوباً عجيباً، لو مدَّ الله [له] في العمر لجاء هذا الشرح من(3/37)
أبلغ كتب الزيدية وأجمعها، وأكثرها ضبطاً وتصحيحاً، ولكنه -عليه السلام- توفي وقد بلغ إلى بعض كتاب الحج، وقد صار ذلك في قدر مجلدين، فعلى هذا كان يأتي بعد كماله ثمانية مجلدات فما حولها، قال لي بعض من روى أحواله في مدة قراءته من الوظائف ما يبهر السامع، ويروق الواصف، فإنه وزَّع أوقاته على الطاعات توزيعاً غير مخالف، ففي بعضها ينسخ الأسفار بخطه ونسخه، ثم يصححها سماعاً على شيخه، فكان له خط رائق فائق، وضبط موافق، وبأمثاله لائق، وفي بعض أوقاته يقرئ تلامذته، وفي بعضها ينقل شيئاً من القرآن غيباً ويتهَّجد به.(3/38)
قلت: ومن أعجب ما رأيته بخطه في جنب مصحف رأيته بمسجدهم المقدس بفللة، وقد طلعت إلى ثمَّ للزيارة في شهر رمضان من سنة تسعمائة واثنتي عشرة ما لفظه: اتفق والحمد لله الفراغ من نقل القرآن الكريم، وتمام حفظه كله غيباً بين صلاة الظهر والعصر من يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر جمادى الأولى [من] سنة سبع وتسعين وثمانمائة، بالدار الميمونة بأعلى فللة في المجلس الأوسط من مجالسها ذي الباب الغربي، آخر سورة منه نقلت غيباً سورة الشعراء في هذا الجزء، وكان نقله متفرقاً، فالثلث الأول منه نقل حال المدارسة بصعدة إبان الشبيبة، والسدس الآخر منه نقل بعد ذلك بمدة مديدة، وأعوام عديدة في فللة، وبقيتَّه نقل متفرقاً فشيء منه في الديار اليمنية، وشيء في الديار الشامية، وأكثر ما نقلناه غيباً في المدة المتأخرة كثيراً ما كان يقع نقله في حال السفر، وحال السير على ظهر المركوب والمنة لله تعالى، والحمد لله على ذلك، وعلى سائر نعمه، ونحن نَعُدُّ ما يسره [الله] لنا من ذلك من أجل نعمه، وأبلغ قسمه، جعله الله لنا هادياً، وشافعاً، ونافعاً، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، رجعنا إلى تمام توزيعه لأوقاته، وفي بعضها يشتغل بأمور أهله، وكان إحرازه للعلوم في مقدار عشر سنين{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ }[النمل:16]، ولقد روى لي هو أنه كتب إلى والده كتاباً فيه من البلاغة، والكمال، ومطابقة مقتضى الحال ما يبهر أرباب المقال، فلماَّ تأمله والده وتصفَّحه، استجاده واستملحه، كتب فيه بخطه العجب: إن صاحب هذا الكتاب ابن سبع عشرة سنة، ولما قضى من(3/39)
طلب العلم حاجته تفرغ للدرس والتدريس في وطنه، فصار رحلة للقاصدين، ومنتجعاً للوافدين يأمَّه طلبة العلم من أكثر الأمصار، والبوادي والحضار، فممن قرأ عليه مدة مديدة [وأسمع عليه كتباً عديدة] حي الإمام الو شلي: محمد بن علي في عصابة من أهل بلاده أعيان، فسافروا بسفره، وأقاموا بإقامته، وتوجهت إليه المسائل والرسائل من كل جهة، ورمقته الأعين، ونطقت بفضله الألسن، وحظي من الإقبال عليه بما لم يحظ به غيره، وكثرت أرزاقه ونذوره، وازدادت رئاسة عشيرته، وأشرق فيهم نوره، وكان الناس في أيام سيادته يتحدثون بأنه الصالح للإمامة، [والقيام بأعباء الرئاسة والزعامة]، وأنشدت فيه الأشعار، قبيل التلبس بدثارها والشعار، وأشادوا بذكره أبلغ إشادة، وأظهر قوم إمامته في حال السيادة، ورأوا بذلك لهم الحسنى وزيادة، فلحي الفقيه، [النبيه]، المنطيق، الفصيح: علي بن يحيى الهذلي ثم الضمدي فيه شعر، منه:
و إنَّا لنرجو عاجلاً أن يقيمه يعيد نصاب الملك في مستقره
إله به قامت سماواته السبعُ.... ويخلع عنه من يحقُّ له الخلعُ
وللفقيه، الأفضل، الأديب، اللبيب: عبد القادر بن محمد بن أحسن الذماري شعر ابتدأه في مدح حي والده السيد شرف الدين والد الإمام عز الدين، وختمه بمدح ولده المذكور، وكان إنشاء هذا الكلام قبل دعوة الإمام بأيام، قال:
فيا عز دين الله بادر بدعوة.... فكل لها من نحوكم متوقعُ
فإنَّا لنرجو أن تجاب وإنها.... يكون لها من حين تظهر موقعُ(3/40)