وأذعن ما ورا النهرين طوعاً.... فسر والحال فيه أسعديُّ
ودونك خذ مفاتيح الدنى عن.... تداني ذا وأنت بها حريُّ
وإنِّي قائلٌ بك عن يقين.... وإن ضلَّ الكفور الملحديُّ
وإنِّي عارفٌ بصلاح فعلٍ.... وإنِّي عن سواك إذن بريُّ
وخذها بنت ليلتها عروساً.... لها من دُرِّ ألفاظي حليُّ
لها الأقلام أعلام وفكري.... حسام والبحور لها الدويُّ
يُقَصِّر عندها الضلِّيل نظماً.... وهمام المجيد الحنظليُّ
وأعيت جرولاً وكذا جريراً.... ولم ينطق بمشبهها الرضيُّ
وأنست في القريض أبا نواسٍ.... ولم يبلغ بلاغتها الصفيُّ
فللقلب الترقرق والتعَّفي.... وللبحر التدفق والأذيُّ
ودم والوقت زهرٌ فيه زهوٌ.... وعزُّك أقعسيُّ سرمديُّ
ودام لأحمد مني صلاةٌ.... مدى الأيام ما غنىَّ الحديُّ(3/26)
هذه القصيدة أمر بها السيد إبراهيم المذكور إلى الناصر أيام فتحه لصعده، وتملكه لها من يد الشريفة فاطمة بنت الحسن، فانتشرت هذه القصيدة بصعدة وغيرها، ونقلها الأدباء، وقد كان وفد على الناصر [قبل ذلك] شاعر من بلاد اليمن، ويقال: إن مسكنه [مدينة] إب، يقال له: ابن العطاب، فأنشده قصيدة فريدة، مدحه فيها وأطنب، فاستحسنها الناصر وغيره، فأجازه جائزة جيدة، اختلف الرواة لي، فقائل يقول: إنه أعطاه بكل بيت منها ديناراً ذهباً، والدينار أشرفي، وزاده من العروض والمراكيب بفوق هذا [العدد]،، وزعم لي هذا الرواي أن عددها أحدى وسبعون بيتاً، فأما أنا فما وقفت إلا على قدر نيف وخمسين بيتاً منها، وقد كتبتها هنا كما وجدتها، وقائل يقول: إنه أجازه ببز هنديُّ ثقيل من أنفس البزوز، جاء للناصر هدية يوم إنشاد هذه القصيدة، فأمر بحمل جميع ذلك إلى هذا الشاعر قبل يفتَّش، فقيل للناصر: لو نظرت هذه الهدية، فإنها بثمن وافر، وقطع نفيسة، منها خرق قيمة كل خرقة فوق الخمسين الأشرفي أو نحو ذلك، فقال: اعطوه الجميع فهذا بخته، فحمل ذلك البز بين يدي هذا الشاعر من فوره، وهو جملة مال قلّ من أعطى شاعراً مثله في زماننا، ولكن الأدباء لما سمعوا طالع القصيدة وهو قوله: حلفت بها منكسّة الرؤوس.. وما يليه تطيروا منه للناصر، وقالوا: إنه مشئوم، فكان كما قالوه، فإن الدنيا من بعده ولت على الناصر عكس ما قد أقبلت له، وهي:
حلفت بها منكسَّة الرؤوس.... يبثُّ دموعها ما في النفوسِ
تفلُّ شبا الكتائب وادعات.... وتصدم هامة الجيش الخميسِ(3/27)
أراقم بل أساود بل أسود.... تروع الأسد وهي ببطن حيسِ
لها لمم إذا خُضبت سواداً.... يشيب لقرعها سود الرؤوسِ
لها حالا رضى يرجى وسخط.... يخاف وأنعم تترى وبؤسِ
ففي حال الرضى والسخط تهمي.... وتمطر بالسعود أو با لنحوس
نلاعبها فتنسينا القذاذا.... ملاعبة الرداح العيطموس
لها حكم على البيض المواضي.... وسمر الخط في حرِّ الوطيسِ
بيوم ترفع الأحكام فيه.... إذا دارت رحى الحرب الضروسِ
بحيث ترى عيون القوم شوساً.... وكانت قبل ذلك غير شوسِ
إليه صادع بالحق راع.... لها متجنب حنث الغموسِ
وإن أمسى العذول لفرط غيظ.... يحاربني ولا حرب البسوسِ
على هجري لعزة واطرَّاحي.... لهند والرباب وتختنوسِ
وميلي عن هوى ريَّا و لبنا.... ولم أحفل بميٍّ أو لميسِ
كواعب كالبدور لها ثغور.... مراشفها ألذّ من الكؤوسِ
سوالب للعقول وشافيات.... لداء المسِّ من جسد المسيسِ
وإني لا أميل إلى تصابٍ.... ولا أصبو لحسو الخندريسِ
رفضت حديثه عني بعيداً.... ولم أجنج إلى رأي خسيسِ
إلى من للخلافة فيه زهو.... يميس به ولا زهو العروسِ
إلى ابن المصطفى وأجل ملك.... يفدَّى بالنفيس وبالنفوسِ
إلى ملك له خلقٌ رضيُّ.... فداه كل ذي خلق بئيسِ
أمير المؤمنين ومن يرجَّى.... لدفع شدائد الدهر العبوسِ
إذا ا عتكرت خطوب الدهر جلىَّ.... غياهب ليلها الداجي العبوسِ(3/28)
بوجه أزهر كالشمس لا بل.... يفوق بنوره ضوء الشموسِ
أقام دعائم الإسلام لما.... أزال مظالم الظلم الدريسِ
فمدح الناصر بن محمد لي.... شعار وهو ملبوسي لبؤسي
جعلت مديحه سمري وبَّثي.... محاسنه وذكراه لبوسي
إمام طاهر الحسبين زاكي المنـ.... ـاصب والفروع من الغروسِ
إلى الخيرات ليس بذي توان.... ولا طرف عن العلياء نعوسِ
شمائل من رسول الله طابت.... وخلق ليس بالخلق البئيسِ
يسوس العالمين بحسن رأي.... وتدبير وسوس خير سوسِ
فكم يوم له صدم الأعادي.... بداء العنقفير الدردبيسِ
وقاد إليهم جيشاً أجيشاً.... أخامس رب صنديد حَميسِ
فعاد مظفراً منصور جيش.... وراح الضد بالخدِّ التعيسِ
وكم أغنى العفاة بفيض كف.... فأخجل صيِّب الغيث الرجوسِ
نقيس بجوده الأنواء جهلاً.... فيا بُعْدَ المقوس من المقيسِ
يصول على الملوك فتتقيه.... بما يرضاه من ذخر نفيسِ
فيا مَلِكٌ تصوَّر من سعودٍ.... كما خلق المعاند من نحوسِ
إذا مارمت أرض الروم دانت.... وجاءت بالأتاوة والمكوسِ
ولو كلفت حقمق هد فاس.... أتاها بالمعاول والفؤوسِ
ولو وافت طروسك شاه رخّى.... بطرسوس نجا عنها وطوسِ
وإن أزمعت غزو الهند أمست.... خلاءً ليس فيها من أنيسِ
علوت من الخلافة في محل.... على قمم الممالك والرؤوسِ
لبست جديدها ثوباً قشيباً.... ليهنك ما لبست من اللبوسِ
وقد وافاك مدح من محب.... لجود نداك والنعماء غموسِ(3/29)
ندين بحبكم شرعاً فأنتم.... نجاة الخلق في يوم عبوسِ
لي الأقلام أوردها بحوري.... فتلتقط الجواهر بالنفوسِ
يصوِّب من الشفاه لها لعاب.... برقش عاجه بالأبنؤسِ
فما أنا خدنها إن لم أطرز.... بمدحك والثناء حُلل الطروسِ
[و] قد تقدم ذكر ما ملك من البلاد، وكم عاش إلى أن مات محبوساً بكوكبان، وذكر قبره.
وأما أولاده فهم: المؤيد محمد بن الناصر، وهو أكبرهم، وهو الذي ملك صنعاء بعده، وسيأتي بعض ذكره ومدته.
[و] الثاني من أولاد الناصر أحمد، وهو الذي خلف أخاه [محمداً] على مملكة صنعاء، ولم تطل مدة ولايته بل حطَّ عليه عامر بن عبد الوهاب حتى أسره، وأخرجه من صنعاء بجميع حاشيته وأهله.
والثالث من أولاد الناصر: علي بن الناصر، مات في مدة أخيه محمد، ولا عقب ذكر للناصر إلا من ذرية أحمد فقط.(3/30)