فقال: البور، أي أنزلوهم البور، فجمع جملة من الأموال والذُخَر والمحاصيل، وتقدم إلى اليمن، فأشار عليه جل وزراءه أن لا يتعرض لصنعاء في سفره هذا [ويتوقع، وأن يعمد ثلا] حتى تلوح لهم الفرصة في صنعاء، [فلم يسعدهم إلى ذلك، واسترجح تقديم صنعاء]، فجاءت طريقهم إلى أن وصلوا علب يماني نقم، فخرجت صنعاء بمن فيها، فوقع طرف قتال انجلت المعركة على أسر الإمام صلاح هناك، ونهب جميع ما معه من الثقل، وتقوى الناصر من تلك الساعة، وبقي صلاح في حبسه، وكان في زمن صلاح في صعدة ونواحيها من رخص الطعام على أنواعه، وكذلك السمن، والسليط، والملح، والحلبة، والغنم الحجازية وغيرها، ما لا يحد ولا يوصف، حتى صارت مدته في رخص هذه الأشياء يضرب بها المثل، فانتهى به حبسه في قبضة الناصر إلى أن توفي في شهر ربيع من سنة تسع وأربعين، ودفن بمسجد موسى من مدينة صنعاء، فتكون مدة خلافته حوالي ثمان سنين ونصف [سنة]، وأمرت الشريفة من صعدة لقبره بلوح كبير، فلما رآه عبد للناصر من كبار مقادمته، اسمه: ريحان بن سعيد كسر ذلك اللوح بدبوسه، فلم يمهله الله بل أخذه أخذ عزيز مقتدر، وعرف هذه الفضيلة لهذا الإمام أهل صنعاء وغيرها فهي متناقلة إلى آخر الدهر، وكان لهذا الإمام ولد اسمه علي بن صلاح، أمه الشريفة فاطمة بنت الحسن، وكانت البلاد الصعدية في يدها، فتوفي هذا الولد في تلك الأيام، فضاقت عليه كثيراً وضاق لضيقها جميع رعيتها، فما أحداً من أهل صعدة في تلك الأيام اشتهر بمس حناء ولا صابون، وأغرب الناس عن التزاويج الكبار مدة، وكان هذا الولد فيه جمال بارع وكبر بين الليل(3/6)
والنهار، وتزوج أوان بلوغه بشريفة دخل بها ليلة الجمعة، ومات حور تلك الليلة [ليلة] ثامن، ودفن بمسجد الهادي -عليه السلام- بجانب غربي منه بقي فيه أياماً، ثم نقل إلى هذه القبة التي هو فيها الآن، وجاءت من أحسن القباب بأحسن الأمكنة.(3/7)
[ذكر والد الإمام صلاح بن علي ]
ووالد الإمام صلاح هو السيد العلامة علي بن محمد بن أبي القاسم، كان في زمانه العالم، العامل، فاق في جميع العلوم، له مصنفات كثيرة، من أشهرها كتاب (تجريد الكشاف) ثلاثة مجلدات سابق فائق، وله (التفسير الكبير) مقدار ثمانية مجلدات.
قال السيد الهادي في (كاشفة الغمة): لم يؤلف مثله قبله ولا بعده، جمع كل غريبة، واحتوى على كل مشكلة، ومقدار فتاويه في جميع العلوم مقدار مجلد كبير.
توفي -رحمة الله عليه - في أول سنة سبع وثلاثين، وعمره تسعون سنة ينقص سنتين، ومسكنه صنعاء وبها مات، وأخوه يحيى بن محمد بن أبي القاسم كان رئيساً، ذا همة، ولاَّه الإمام: علي بن محمد حصن ظفار، ولما توفي السيد العلامة: علي بن محمد بن أبي القاسم رثاه الفقيه: أحمد بن قاسم الشامي فقال:
خطب تكاد له الأفلاك تنفطُر.... والشمس تنقض والأملاك تنتثرُ
والأرض ترجف لما مات عالمها.... وكاد يسطو عليها بعده القدرُ
ولىَّ علي وخلَّى في العلى خلفاً.... مثل النجوم هوى من بينها القمرُ
وكان في ذروات المجد مرتفعاً.... تسمو به رتب العليا وتفتخرُ
أحصى العلوم فظنوا أنه ملك.... يمشي على الأرض إلا أنه بشرُ
تزلزل اليمن الأعلى لفرقته.... واستوحشت في الورى من بعده مضرُ
ولم يزل في آزال رنة وبكى.... بحرقة ذاب منها الترب والحجرُ
وكاد ينحط من أقطاره نقم.... على ثرى قبره حزناً وينكسرُ
أحلى مذاقاً من السلوى شمائله.... وحيثما الغيظ منه يقطر الصبرُ(3/8)
إن صال أوصل أوصال العدى تلفاً.... وجاءه العاضدان النصر والظفرُ
وهل يشاكله الليث الهصور وما.... لليث رمح ولا صمصامة ذكرُ
مثل السحاب يخاف الخلق صعقته.... وترتجي غيثه الأشجار والثمرُ
يروي جميع أحاديث النبي ولم.... يرو الجميع أبو بكر ولا عمرُ
ويكشف اللبس من معنىالكتاب ولم.... يقدر على فهمه الألباب والفكرُ
من للكتاب محلٌّ بعد غيبته.... وللأحاديث في الدنيا فينتظرُ
وللأصولين من ينهي أدلتها.... إلى الضرورة حتى يصدق النظرُ
ومن لعلم المعاني والبيان ومن.... على معاني لطيف النحو يقتدرُ
أمن يرد الفروع الغامضات إلى.... علم الأصول ويحصيها فتنحصرُ
قد حازها منه صدراً كالخضم له.... موج على شبه الفجَّار ينفجرُ
والعلم كالروح للأحيا فإن عدمت.... لم يبق إلا شخوص الناس والصورُ
لئن بكوه بأكباد مقطعة.... وأعين دمعها ما زال ينحدرُ
وأنزفوا الدمع واستكت مسامعهم.... حتى يكاد يزول السمع والبصرُ
فليستعيروا دموعاً للنواظر من.... سحابة من لدنها الماء ينهمرُ
وليجعلن بكاهم والدموع على.... دين الإله إلى أن ينقضي العمرُ
فقد تضعضع دين الله وانهدمت.... أركانه وعفا من رسمه الأثرُ
وليس في الناس من يحيي معالمه.... إلا رجال بني الزهراء وإن قهروا
فهم أجل بني الدنيا وأفضلهم.... بذاك قد نطق القرآن والخبرُ
بنوا على العدل والتوحيد مذهبهم.... ونزَّهوا الله عما يفعل البشرُ(3/9)
والأرض أكثر من فيها مقالهم.... إن القبيح قضاء الله والقدرُ
وكل فعل فإن الله خالقه.... في العالمين ومنه النفع والضررُ
أما الأصول فأهل الحشو ما فهموا.... معناه لكنها ما تفهم البقرُ
لولاه ما عرف الباري ولا عرفت.... آياته إنها منه ولا السورُ
وفرقة نفت الباري وبعضهم.... ثنَّاه جهلاً فلم يبقوا ولم يذروا
لولا أئمة أهل البيت تدفعهم.... لكان أكثر هذا الخلق قد كفروا
كمثل زيد ويحيى بن الحسين ومن.... آل النبي مصابيح قد اشتهروا
ولم يزل قائم منهم له خطر.... بالحق ملتزم بالله منتصرُ
يحيي الجهاد ويستدعي العباد إلى.... فعل الرشاد كما جائت به النذرُ
ودين جدهم المختار دينهم.... بذا تواترت الأخبار والسيرُ
وأكثر الناس إيماناً لهم سلف.... فكيف يخفى عليهم وهو منتشرُ
خلائف الله من بعد النبي كما.... كان الخليفة موسى قبل والخضرُ
فالحق أولئك إنَّ الدين دينهم.... لا دين من هو بالتقليد يعتذرُ
فهذه نفثة من صدر محترق.... يكاد تصعد من أحشائه الشررُ
كيف المنام وأرض الله مظلمة.... من بعد أبلج يستسقى به المطرُ
بحر جواهره تبدو ولجته.... فيها لسائله الياقوت والدررُ
لولا له فتية من نفس جوهره.... ما أورقت بعده من فقده الشجرُ
زاكي الطريقة في قول وفي عمل.... عذب الخليقة ما في صفوها كدرُ
وكم له من تصانيف محكمة.... تكلُّ عن مثلها الأفكار والفكرُ(3/10)