[ذكر قريس وعلب وعرقب]
قال السيد صارم الدين -رحمه الله تعالى -:
وذا زمانك فانظر في حوادثه.... فالوصف يقبح للمحسوس بالبصرِ
وقد جرت فتن فيه مروعة.... أتت على أنفس الأرواح والذخرِ
منها قريس ويقفوا إثرها علب.... وعرقب وهي دهيا الصم والعبرِ
اعلم: أني قبل الشروع في شرح كلام السيد صارم الدين من هذا المكان إلى آخر المنظومة أقدم قبل ذلك كلاماً يشتمل على مقدمتين:
الأولى: تقرير وتأكيد.
والثانية: توطئة وتمهيد.
أما التقرير والتأكيد، فاعلم أني رغبت إلى شرح هذه المنظومة رغبة كلية، [وذلك] لما اشتملت عليه من فضائل العترة الزكية، والرعاية لحق خير البرية، في تأدية حق المودة التي هي من الفروض الأولية والأمور الكلية، ولن يتم ذلك إلا بجعلهم في خلوص المودة بالسوية، ولا نفرق بين الحسينية، والحسنية، ولا الهدوية، ولا الحمزية، وهذا وإن كان مذهبي من الصغر إلى الكبر، وجنوحي إليه أنا وآبائي قد ظهر واشتهر، تمسكاً منَّا بما وردت به السور، وعضده من تواتر الخبر، فقد أحببت أقرره هنا، وفي خطبة هذا الكتاب ليدكره من ادكر، ويقص عليه ما ذكرته في ضمن الشرح هذا عن أهل البيت من السير، فإن وجدني حكيت عن أحد منهم ما فيه ما يصم، أو ما يقضي بأني بحزبهم وحبهم جميعاً لم أعتصم، أو أني لا أستحسن إنشاد أمثال قول الكميت في محبة حيهم جميعاً والميت، حيث يقول:
وما لي إلا آل أحمد شيعة.... وما لي إلا مشعب الحق مشعبُ
إليكم ذوي آل النبي تطلعت.... نوازع من قلبي ظمآءُ وألببُ
إلى النفر البيض الذين بحبهم.... إلى الله فيما نابني أتقربُ
بني هاشم رهط النبي فإنني.... بهم ولهم أرضى مراراً وأغضبُ(2/376)
خفضت لهم مني جناحي مودة.... إلى كنف عطفاه أهل ومرحبُ
ومن غيرهم أرضى لنفسي شيعة.... ومن بعدهم لامن أجل وأرهبُ
أناس بهم عزت قريش فأصبحوا.... وفيهم خباء المكرمات المطنبُ
وأمثال قول مهيار في الثناء على العترة الأطهار:
وعلي للرفقاء في طلب العلا.... والجاعلين لها الخطار مراقيا
نفس مذللة لما عزت به.... يعزي شميم الريح زاداً كافيا
ولحيّ آل محمد أطرأ به.... مدحاً وميَّتهم رضاه مراثيا
هذا لهم والقوم لاقومي هم.... جنساً وعقر ديارهم لاداريا
إلا المحبة والكريم نطيعه.... بحدا الكرام الأبعدين أدانيا
بالطالبيين اشتَفي من دائه.... مجدي الذي عدم الدواء الشافيا
وأما وسيدهم علي قوله.... يشجي العدو ويبهج المتواليا
قسماً لقد كرم الغري بضمه.... قبراً يظل البحرفيه ثاويا
من قصيدة لمهيار مدح فيها أهل البيت ينفي عن نفسه وهم من يتوهم أنه مقصَّر في حقهم، فليعلم الواقف على هذا أني إن كنت على غير ما ذكرته في حقهم من المودة الأكيدة، وتصحيح النية والعقيدة، فإني مخل بواجب، ومن زمرة النواصب، وكيف يكون ذلك؟ وقد قال فيهم جدهم: ((وقدموهم.. الخبر)) حتى قال: ((ولا تشتموهم فتكفروا )).
قال الإمام المنصور بالله عقيب روايته لهذا الخبر: فقضى بالضلال على من خالفنا، والكفر على من شتمنا، وقال ً: ((حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم والمعين عليهم ومن سبهم)).(2/377)
قال المنصور [بالله] أيضاً: أتدري من المعين عليهم؟ ألا إنه الخاذل لهم، قال: و[من] المعلوم أن من آذى الرجل في بهائمه يكون من أعدائه، فكيف بمن آذى أولاده؟ ! انتهى.
وأما التوطئة والتمهيد: فاعلم أن السيد صارم الدين-رحمه الله [تعالى] - قد [كان] نظم أكثر هذه المنظومة في مدة متقدمة واقتصر على ذكر المنصور، والمهدي، والهادي، بلفظ أقل من ذكرهم هذا، ولم يذكر أحداً بعدهم من أهل عصره، بل قال:
وذا زمانك فانظر في حوادثه...البيت
ولم يذكر أمر قريس وعلب وعرقب وغير ذلك، بل اعتذر بقوله:
فالوصف يقبح للمحسوس بالبصر(2/378)
أي أن معرفة أهل العصر بعضهم لبعض مغنية، أو ظن أنه إن ذكر ذلك أرضى بعضاً، وأغضب بعضاً، وازدرع حباً وبغضاً، ثم استرجح بعد ذلك الزيادة في عدد أبيات المنظومة، والإشارة إلى جمل من أحوال أهل زمانه، وهذا الذي استرجحه هو الصواب عند ذوي الألباب، فإن شارح (البسَّامة) مازال يفكك مقفلها، ويفَّصل مجملها، حتى وصل إلى ذكر [ملوك] بني المظفر الذين كانوا هم السبب في إنشاء (البسَّامة)، ولم يذكرهم في شرحه ببنت شفة ولا أشار إليهم على وجه يحصل لمن لا يعرفهم به المعرفة، فأدى اختصاره لذلك إلى أن كثيراً ممن اطلع على شرحه لامه على عدم ذكرهم، وما قبل عذر من اعتذر له في تركهم بأن أمرهم كان ظاهراً في تلك المدة، بل قالوا: ومن أين لك معرفة جميع الناس لأحوالهم؟ فقد تنقل القصيدة إلى مشرق، ومغرب وشام، ويمن، وكذلك شرحها، وأكثر أهل الجهات لا تعرف أحوالهم، بل من تأخر مُديدة يسيرة بعدهم من أهل بلادهم يجهل ذلك كما قد جُرّب، فإنا قد رأينا أشياء مهمة اتفقت في بلادنا وزماننا، وما دُونِتّ، فما مضت مدة من أعمارنا إلا وقد مست الحاجة منَّا إلى معرفتها، وأما كون ذكر أهل الزمن قد يؤدي في بعض الأحوال إلى إرضاء قوم، وغضب آخرين، فذلك إذا كان الحاكي لأحوال القوم مغراً بذكر المثالب، ومؤثراً للتعصب مع أهل جانب دون جانب، فنعم قد يؤدي تأليف هذه الأشياء إلى ما ذكره وإلى فوقه، وأما إذا كان الداعي للمدون والمؤلف هو رعاية ما يجب للجميع من نظمهم في سلك المودة التي بها يفرق بين المتعصب والمنصف، والمتحامل والمتعفف، فلا كان ما ذكر –عصمنا الله من(2/379)
التعرض لأذيتهم، وحشرنا في حزب مودتهم- وبتمام هاتين المقدمتين، وتقرير هاتين القاعدتين يقع الشروع في شرح ما ذكره السيد صارم الدين بلطف الله وحسن توفيقه.(2/380)