قال: ومن سعادته أنه حظي في زمانه من المناقب، بما لم يحظ به غيره، [و] منها طول عمره في أفعال البر من الصغر إلى الكبر، ومنها كثرة الأولاد وتعددهم، وما رآه بعينه من الكمال، ومحامد الخلال، ومنها سلامته من نكبات الدهر، ومعار أهله الظاهرة، فلم يسلط عليه عدو ولا ظالم ولا أحد من الدول والقبائل مع منابذته لهم في بعض الأحوال، وأقول: صدق الإمام فيما نطق [به]، فإنك إذا تفكرت فيما بلي به عبد الله بن الحسن [بن الحسن] الكامل من أبي الدوانيق، وما أنزله به وبآله من أنواع العذاب علمت أنه قد أصاب في لموحه إلى هذا الباب؛ لأن أهل المناصب العلية قلَّ أن يسلموا من أن يقلب لهم الدهر ظهر المجن، ويجرعهم أفاويق المحن، وانظر أيضاً إلى النقيب أبي أحمد والد المرتضى، والرضي الموسوي، فإنه ما سلم من طوارق الزمان، ونوائب الحدثان، بل لما اشتهرت فضائله ثقل على عضد الدولة وهابه، وكبر في صدره، فاعتقله في بعض قلاع فارس، وبقي محبوساً حتى مات العضد، ولولده الرضي في ذلك أشعار وأخبار، وقد أشرت [أنا] إليها في شرحي للمرثية التي أنشأها الإمام عز الدين بعد موت أبيه، وهي من طنانات المراثي، ولمطابقتها للمقام أحببت الإتيان بها [هنا لتكون لهذا الباب ختام]، وهي:
مصابك هدَّ الشامخات الرواسيا.... وصير طرف الفخر والمجد باكيا
وضعضع بنياناً من المجد والعلا.... له كنت ياصدر الأفاضل بانيا
وسعَّر ناراً للكروب شديدة.... تذيب القلوب المصمتات القواسيا
وفقدك منه اللب أصبح مدهشاً.... كحيران ملقى في قفار مواميا
وروعك جرح ليس جرح كمثله.... عدمنا له طباً يداويه آسيا
وبعدك منه القلب قد صار موحشاً.... كئيباً وصار الدمع في الخد جاريا(2/371)
وموتك خطب ألبس الأرض ظلمة.... وأكسبها بدر السما والدراريا
عدمنا سلواً حين غيبَّك الثرى.... فأمسيت منَّا غائباً فيه ثاويا
[قريباً ولكن لا تمنُّ بنظرة.... بعيداً سحيقاً في الحقيقة نائيا]
أبا أحمد يا خير حي وميت.... ويا أوحداً في الفضل براً وزاكيا
ويا شرف الدنيا ويا خير أهلها.... وفخر بني الدنيا شيخاً وناشيا
لقد عشت ميمون النقيبة ناصحاً.... لرب السما في مكسب الحمد ساعيا
مصوناً عن الخلق الذميم مبرءاً.... سريعاً إلى الخيرات لا متراخيا
غياثاً لوفَّاد مغيثاً ومنهلاً.... فراتاً لورَّاد تنيل الأمانيا
كريماً جواداً مانحاً متفضلاً.... كسوباً ومتلافاً مضيفاً وكاسيا
فكم جائع أشبعته وهو ساغب.... وكم لابس لولاك أصبح عاريا
وما زلت لله المهيمن خائفاً.... ترى لبهيمات الليالي معانيا
تصلي على ضعف صلاة طويلة.... فلا فاتر عنها ولامتوانيا
شكور على النعماء تقَّدر قدرها.... ذكور لما أوليته لست ناسيا
ورثت الندى والجود والمجد والهدى.... وشيَّدت بنياناً لها كان واهيا
وأسست يا خير الأنام مدارساً.... أفدت بها من كان فيهنَّ قاريا
فكم خاتم للذكر فيها وعالم.... وكم وافد لما أتى كنت قاريا
وربيت في حجر الخلافة راضعاً.... لأخلافها وقتاً من الدهرخاليا(2/372)
وربيت من أبنائك الشم قائماً.... بأعبائها كل الشرائط حاويا
أبوك إمام للأنام وبعده.... ولدت إماماً للبرية ثانيا
ووالدك الهادي إلى دين ربه.... وصار ابنك الداعي إلى الحق هاديا
توسطت بين الهاديين مباركاً.... كواسطة العقد التي هي ماهيا
[وأدركت هذا ثم هذا معمراً.... وبايعت هذا بعد ذلك باقيا]
فيالك فخراً لافخار كمثله.... على البدر والشمس المنيرة ساميا
خصصت به دون البرايا مفضلاً.... فَصُيِر كل منه غيرك خاليا
وعمرت سبعاً مع ثمانين حجة.... حميداً سعيداً ظاهر الصيت عاليا
وما زلت محمود السجايا محبباً.... لكل البرايا لم نجد لك قاليا
وما مات من أبقى كمثلك سادة.... غطاريف صيداً يكسبون المعاليا
ثلاثين من أبناء صلبك لم يكن.... لهم أحد في الخافقين مساويا
كذا سبعة بعد الثلاثين أنجم.... ترى في سماء المكرمات بواديا
فمنهم إمام طبق الأرض ذكره.... يقود النواصي عنوة والصياصيا
إلى سيد صدر متى قام خاطباً.... على منبر عالٍ يصوغ اللآليا
ومن قائد للجيش أورع ماجد.... يسر الموالي أويسوء المعاديا
[إلى ناشرٍ للعلم فيه مصنف.... يجوب إليه الأرض من كان قاصيا]
ومن عابدٍ لله برٍ مطهرٍ.... وصاحب ذكر ليس ينفك تاليا
إلى طالب في درس علم مسامرٍ.... لدفتره حتى يرى النجم باديا
مكارم ذكراها يزين ونظمها.... يروق من الاسماع ما كان واعيا
وأبقيت من أبنا أبيك مكارماً.... بذكرهم تجلى القلوب الصواديا
كهولاً وشباناً وشيخاً مبجلاً.... فأكرم بهم رهطاً سراةً مواليا
فحزت وأحرزت المحاسن كلها.... فمن فرط تهذيب عدمت المساويا
فيا أبتاه أدعوك دعوة شيق.... وهيهات يوماً أن تجيب المناديا(2/373)
بكينا فلم يُغْنِ البكاء وإننا.... لنرضى بما كان المهيمن راضيا
لإن كنت لبيَّت المهيب مسارعاً.... إلى غرف حُزنَ الحسان الغوانيا
وغادرتنا في كربة وكآبة.... وقد صرت مسروراً بذلك ساليا
فما أَنْسَ لا أنسى جميلاً صنعته.... إلي وبراً واسعاً وأياديا
فلما أتاني عنك أنك مدنف.... وما كنت بالإدناف من قبل داريا
نهضت من الأهنوم نحوك قاصداً.... ولو فاز قدحي كنت عندك دانيا
وبادرت في تلك المهامه سائراً.... على عجل مني وفي الليل ساريا
ولا علم لي أن الحمام مسابق.... عليك محيل كلما كنت ناويا
فقد جاءني ناع بموتك مؤذن.... ألا ليتني لم أستمع لك ناعيا
ويا ليتني أدركتُ ما كنتُ آملاً.... أرى حاملاً في النعش ثم مواريا
وياليتني كنت المباشر بعدما.... توفيت مرضياً عليك وراضيا
أرى غاسلاً في الغاسلين وبعده.... وياليته مافات ما كنت راجيا
ألا ليس ليتاً نافعاً حرَّ غلة.... ولا لسقام القلب والكرب شافيا
فصبراً فإن الصبر أوسع ساحة.... وخير الأسى والحزن ما كان خافيا
وحمداً على مُرّ القضاء وصرفه.... وإن كانت الأجفان منَّا هواميا
وإن لنا في المصطفى خير أسوةٍ.... وآل النبي الأرفعين مراقيا
عليك سلام الله ما هبت الصبا.... وزارك مني دائماً متواليا
وأسكنك الرحمن جنات عدنه.... تحل إذا ما صرت فيها العلاليا
ونلت الرضا والفوز فيها مخلداً.... ومن ثمرات للفواكه جانيا
ولا نلت مكروهاً ولا ماتخافه.... وكنت من الأهوال في الحشر ناجيا(2/374)
تمت القصيدة الفريدة، التي تنبئ عن اللوعة الشديدة، أتيت بها هاهنا لما تضمنته من الفوائد العديدة، والتواريخ التي تنخرط في سلك هذا الشرح، [التي تنبي] على فضائل العترة الرشيدة، وليقع الرجوع إلى ذكر ما بقي من أبيات المنظومة [النشيدة].(2/375)