(منتهى السؤل)، فقرأه على الفقيه المذكور، فبلغ فيه من الإتقان والتحقيق مالم يبلغه غيره، وفي عرض ذلك سمع سيرة رسول الله ً على الفقيه العالم علي بن صلاح العدوي، وسمع من كتب اللغة (نظام الغريب)،و(مقامات الحريري)، فصنَّف شرحاً لمقامات الحريري ذهب يوم معبر، وفي عرض ذلك سمع (سنن أبي داود)، واستجاز كتاب (البخاري) و(مسلم)، و(الترمذي)، و(ابن ماجه) من الشيخ المشهور بالحديث سليمان الكوفي من ثغر العدينة، فكتب [إليه] إجازة في ذلك، وبعد أن ثبتت له اليد الطولى في هذه العلوم، أخذ في سماع (الكشَّاف) على المقري الحائز لقصبات السبق في علوم القرآن: أحمد بن محمد البحيري المعروف بابن النساخ.(2/356)
فأما علم الفروع: فإنه لما رأى أنه بحر لا ساحل له، وأنه لا ينفع فيه إلا النقل، ولا يحتاج إلى تدقيق نظر ممَّا قد نصَّ عليه الأئمة -عليهم السلام- من المسائل، وإنما يحتاج إلى نقل أقاويلهم إن أراد حكاية النصَّ فيما جاءوا به، ورأى أن قوماً قطعوا في طلبه أعمارهم، ولم ينتهوا منه إلى طائل لسعته، ترجَّح له سلك [غير] ما سلك أولئك من العزلة والنظر في كتبه المشهورة كـ(اللمع)، والعكوف على تكرارها حتى تحفظها؛ لما في ذلك من الإخلال بالفنون التي قد جمعها، فجعل يسمع على حي أخيه بالليل ما قد سمعه على مشائخه، ثم يختصر ما ألقاه عليه صنوه من شروح الكتب التي يقرأ فيها، ونسخها حتى أتمه كتاباً مجلداً مستوفياً للخلاف، وكلام السادة والمذاكرين، وأخذ في نقل ما جمعه، فلما تم ذلك توفي حي صنوه الهادي –رحمه الله [تعالى]- قبل موت [حي] الإمام الناصر صلاح بأيام قليلة، فاشتغل بذلك حتى توفي الناصر، فاتخذ له تابوت، وجصصوا عليه وكتموا موته إلى أواخر ذي الحجة، ثم دفن، وكان بعد موته اضطرب الناس فيمن يقوم بالأمر، وكان الناصر قد أشار إلى حي السيد الفاضل علي بن أبي الفضائل، وأنه أولى بالأمر بعده لمحله في الفضل، وللقرابة منه رفقاً بأولاده؛ لأنه ابن عمه، فطلبه الوزراء، فطلبوا منه القيام بالأمر فأجابهم بأن هذا الأمر يفتقر صاحبه إلى البصيرة الواقعة، والمقصود به وجه الله [سبحانه]، وفينا من هو أوقع مني بصيرة يشير إلى المهدي –عليه السلام-، فلما فهموا من السيد ترجيح جانب المهدي [-عليه السلام-] توقفوا.(2/357)
قال مصَّنف سيرة المهدي وهو ولده: وكانوا غير طامعين أن أحداً يجيبهم إلى قيام أي أولاد الإمام الناصر؛ لظهور قصورهم عن هذا الأمر، فوصلتهم كتب من حي القاضي عبد الله [بن حسن] الدواري، وغيره كالسيد صلاح بن الجلال، والسيد داود بن يحيى بن الحسين، يأمرونهم بالتوقف حتى يصلوا، قال: وأوهمهم القاضي في كتابه أنهم يريدون إقامة ولد الإمام، فمالت قلوب الوزراء إلى ذلك لأمور حذفتها؛ لأن فيها طرف طعن على الجماعة، مالي بذكره هنا فائدة؛ لبنائي هذا الشرح على عدم أذية أحد من العترة، ولا من شيعتهم حشرني الله في زمرتهم.
قال: فانتظر الناس وصول القاضي والسادة، فلما وصلوا كان الكلام في ذلك منوطاً بالقاضي، فجعل يروِّض ذوي البصائر في صنعاء للمساعدة إلى تقويم ولد الإمام، فأحضرهم وأخذ رأيهم، فأظهروا الامتناع، فلما أيس منهم توقف، ثم حكى المصَّنف: أنهم أعملوا الحيلة، واستمالوا جماعة سماهم، استرجحوا إقامة ابن الإمام.
قال: فلما علم ذلك السادة [النبلاء]، والفقهاء الفضلاء انزعجوا أشد الانزعاج، وفزعوا إلى من يصلح من فضلاء أهل البيت، ولم يكن المشار إليه حينئذٍ للصلاحية في صنعاء إلا ثلاثة، وهم: السيد الناصر أحمد بن محمد بن المطهر بن يحيى المتوكل من آل المطهر، والثاني: السيد الأفضل الأورع علي بن أبي الفضائل.(2/358)
[قال:] وثالثهم الإمام المهدي أحمد بن يحيى، قال: فاجتمع العلماء واستحضروا هؤلاء الثلاثة في المسجد المعروف بمسجد جمال الدين في صنعاء، وذكَّروا السادة ما قد اجتمع عليه أولئك الجماعة من نصب علي بن صلاح، وقالوا لهم: ما ثمَّ من نعلمه من يصلح لهذا الأمر إلا أنتم، فاختاروا أحدكم.
قال: وكان مولانا -يعني أباه المهدي- أصغرهم سناً، كما يقل الشعر في وجهه، فأجاب عليهم السيد الأفضل الأورع علي بن أبي الفضائل، وكان أكبرهم سناً: أما أنا فمبتلى بالشك في الطهارة والصلاة كما تعرفون حتى تستغرق أكثر وقتي، ومن كان على هذه الصفة، فكيف يصلح لهذا الأمر لاحتياجه؛ إلى تفرغ النظر في أمر الأمة، وافتقاد الأمور، وهذا عذر واضح، وقال السيد الناصر: هذا أمر المقصود به رضوان الله، والقيام بالأحكام [كما] يقتضيه الكتاب والسنة، أصولاً وفروعاً، وذلك لا يتأتى إلا لمن قد استقل بعلوم الاجتهاد، إلى كلام ساقه المصنِّف، ثم قال السيد الناصر: وعندي أني قاصر عن هذه المرتبة، ثم انتظروا ما يجيب به مولانا، فأجاب بأني صغير السن كما ترون، وهذا الأمر لا يصلح إلا ممَن قد جرَّب الأمور، وساس الجمهور، وخاض في تدبير الدنيا وعلاجها، ورَدَّ حيناً ورُدّ عليه، ورجع إلى غيره ورجع إليه، وأنالم يمض علي من العمر ما يتسع لذلك، إلى أن قال: فلست أصلح لذلك في هذه الحال، فلم يقبلوا منه، وأجابوا عليه بأنك ما كنت تحتاج [إليه] من هذه الأمور فنحن عندك بما تحتاج إليه مما لم يتقدم لك فيه تجربة، فيحصل بالمشاورة ما تحتاج إليه من ذلك، ونحن لا نفارقك –إن شاء الله تعالى- في(2/359)
شدة ولا رخاء، فإن امتنعت بعد بذلنا من أنفسنا السمع [لك] والطاعة، حتى قال السيد علي بن أبي الفضائل: لو أردت مني خدمة في فرسك أو سياسة جملك، لم تأنف نفسي عن القيام بذلك طاعةً لله تعالى، ولمن أوجب طاعته، ولا أبخل بنفسي [عن نفسك] في مواضع الأخطار، فإن امتنعت بعد أن كمل الأعوان لم تجدنا بعدها خلفك، وقد ذكر ذلك -عليه السلام- في قصيدة، من جملتها [قوله] :
لما أتاني أناس في الزمان هم.... أصفى الأنام وأزكاه وأورعه
قالوا: تقدم، فقلت: الآن مختبري.... في الناس ضيق فاعفوني لأوسعه
قالوا: اختبرناك من قدم فأنت لها.... أهل وأنك عن قرب ستوسعه
فقمت لا لعلو أبتغيه ولا.... مالٍ ولا لي ثارقمت أتبعه
إلى آخرها، فلما أجمع رأيهم على إجابته بايعه السيدان المذكوران ثم العلماء [واحداً بعد واحد]، قال بعضهم: إني لا أفرق بين بيعتي إياك وبين بيعة زيد بن علي -عليه السلام-، ولما تمت البيعة، وكانت قبل دفن الإمام الناصر بأيام قليلة، أزمعوا على الخروج تلك الليلة، فلما علم الوزراء باتفاق الفضلاء، وأنهم في إحداث أمر أزمعوا [على] تعجيل البيعة لولد الإمام قبل أن يظهر أمر الإخوان وما أجمعوا عليه، فاجتمع منهم جماعة عددهم وأسماؤهم أضربت عن ذكرهم؛ لما لا يؤمن معه محبة وضع مراتب العظماء، قال: وبايعوا في جوف الليل لولد الإمام، فلما دنا الصباح قام [الأمير] الباقر بن محمد، وأشرف على القصر وصَّيح لعلي بن صلاح، وسَّماه: أمير المؤمنين.
قال: فلما كان الغد خرج أهل البيعة المتقدمة مفترقين غير مجتمعين.(2/360)