رفع اللواء وجيشه ألوى على.... (ذي مرمر) وأناله التنكيلا
قد أيقنوا بالموت في ذرواته.... لما رأو فيه الطعام قليلا
أعمارهم مقرونة بنفاده.... فإذا انقضى لم يرتجوا تمهيلا
لولا الأماني أنهم يعطونه.... مالاً يُدَّس به إليه جزيلا
ويسلمون حصونهم ليخلصوا.... حصناً عظيماً في النفوس جليلا
ما جادت الدنيا بحصن مثله.... هل تتطلبنَّ على النهار دليلا
قال الخليل الصلح، قلت: خديعة.... يا ليتني لم أتخذك خليلا
أو ليس رأس القوم في يد ضيغم.... لا يرهب الترجيف والتهويلا
هذا وقد بلغ الجزاير فعله.... سيحونها وفراتها والنيلا
ما ذا يقول الناس في الدنيا بمن.... ولىَّ فأعقب فعله تبطيلا
إن لم يسد الجيش جملة أرضهم.... فلها الرواجف بكرة وأصيلا
لو أخلص النيات كل مجاهد.... لله عجَّل نصره تعجيلا
فاصبر فعند الصبر نصر عاجل.... واجعله في كل الأمور جميلا
واصرف زمانك في الجهاد مصمماً.... والله حسبك فاتخذه وكيلا
وكان هذا الفقيه أحمد الشامي، نقمة على الاسماعيلية، لا يكفَّ عن الإغراء بهم، ولما ملك المنصور علي بن صلاح ذي مرمر، كما تقدم، ونوى الخروج إلى بيت غفر، وجربان، من بلاد همدان كتب إليه أيضاً في هذه السنة المذكورة هذه القصيدة الفريدة:
سلا عن أمور الباطنية من يدري.... يحدثكم بالسر منها وبالجهرِ
لقد أظهروا الدين الحنيف وأبطنوا.... من الكفر ما يخلي السحاب عن القطرِ
وكم قائل لي كيف كفَّرت فرقة.... على ملة الإسلام في ظاهر الأمرِ
فقلت له إجماع أمة أحمد.... وإجماع أهل البيت دلاَّ على الكفرِ
وأخبار أعلام الأنام تواترت.... على كفرهم فاعلم إذا كنت لا تدري(2/346)
ولولا لهم علم التواتر ما دروا.... بوجدان قرن أونبي إلى الحشرِ
هم انتحلوا دين المجوس سفاهة.... وقدجعلوا الإسلام للكفر كالسترِ
ويشهد ما خطوه في كل دفتر.... بهذا فهل للباطنية من عذرِ
فمن كان ينفي الكفر عنهم فإنه.... يغطي على الشمس المنيرة والبدرِ
ألم يهدموا الإسلام حين تمكنوا.... على الملك واستولوا على البحر والبرِ
سآتيك من أنباء تلك بنبذة.... وإن كان في أخبارهم غاية الكثرِ
تظهر ميمون المجوسي بدعوة.... ولُقِّب بالقداح في ذلك العصرِ
وتأريخه سبع وسبعون حجة.... مع مائتي عام تماماً سوى شهرِ
وأولاده كانوا أئمة وقتهم.... وقد ملكوا دست الخلافة في مصرِ
فأما عبيد الله مهديهم فقد.... تملك إفريقية الغرب بالقهرِ
وفي تونس قرت قواعد ملكه.... إلى طنجة القصوى إلى جانب الثغرِ
وكان له في القيروان وقابسٍ.... وقائع في الأعداء أحمى من الجمرِ
أحل دماء المسلمين وسبيهم.... وتحريقهم بالنار والشرب للخمرِ
وأبناؤه في مصر قد ملكوا إلى.... أقاصي خراسان إلى ما ورا النهرِ
وصالوا على أرض العراقين وانتهوا.... إلى مدن الشامات شائعة الذكرِ
حووا مدناً فيها الرياض كأنها.... تلحف فيها الدور بالحلل الخضرِ
فحلوا بها ثم استحلوا عظائماً.... من القتل والتحريق للناس والسكرِ
وقد قلعوا الركن المكرم مرة.... وراحوا به الأحساء من البيت ذي الحجرِ(2/347)
وهم أحرقوا القرآن عمداً وخرَّبوا.... مساجد كانت للعبادة والذكرِ
فجاهدهم لما تبَّين كفرهم.... ملوك بني العباس من ذلك القطرِ
وثاروا بهم قتلاً بكل مدينة.... فزالوا كما زالت ثمود من الحجر
ولم يبق إلا في قرى الهند منهم.... قليل لتعليم الكهانة والسحرِ
وقد ملكوا صنعاء من بعد صعدة.... إلى عدن قهراً إلى بلد الشحرِ
فلما استقروا أفسدوا في ديارهم.... فناصبهم أهل البصيرة والصبرِ
دعوا وقت يحيى بن الحسين فلم يزل.... يجاهدهم في صعدة مدة العمرِ
له معهم بالسيف سبعون وقعة.... فسائل بها أهل التواريخ والخبرِ
ومن بعد يحيى أحمد الناصر الذي.... له وقعات تصدع القلب في الصدرِ
له في نغاش وقعة ليس مثلها.... وقائع صفين ولا اليوم في بدرِ
وللقاسم الشهم العياني وقعة.... بنجران أفنى شاكراً وبني الصقرِ
وشَّق صفوف الباطنية في الوغى.... كما شق جلباب الدجى فلق الفجر
ولابن سليمان على كبر سنه.... جهادان من قتل ذريع ومن شعرِ
أبادهم في يوم غيل جلاجل.... وفي (سروات القاع) قتلا مع الأسرِ
ومن شيمة المنصور قتل رجالهم.... وملك النساء للعالمين بلا مهرِ
كما اجتثهم بالسيف في أرض صعدة.... وفي (الجوف) و(البونين) قتلاً وفي (نجرِ)
ويكفي صلاحاً في المنقب وقعة.... أباد بها أهل التكاثر والكبرِ
تجلت وقتلاها مئين كثيرة.... قرى الطير لحماً والوحوشات في القفرِ(2/348)
وقد فتح المنصور بالله أرضهم.... ببيض المواضي والردينية السمرِ
وما زال في أرض القرامط لابساً.... من الله سربال السعادة والنصرِ
إلى أن رقى الشُمَّ الشوامخ وارتقى.... إلى غاية في ذروة المجد والفخرِ
ولكنه قد أسبل العفو عنهم.... وزاد لهم حظاً على الجاه والقدرِ
فقرر في ريعان منهم عصابة.... وفي (ضلع) قوماً كثيراً وفي (ظهرِ)
وما وقفوا في الذل إلا تربصاً.... لأخذ الصياصي بعد حين من الدهرِ
فهلا نفاهم من بلاد كأنها.... رياض من الفردوس أنهارها تجري
ولو قسمت في المسلمين غنيمة.... لكان هو الأولى وأعظم للأجرِ
ولا بد من يوم سعيد مبارك.... له ليلة غراء كما ليلة القدرِ
يسير به الجيش العرمرم لابساً.... سرابيل من نقعِ بألوية حمرِ
فيصدم جرباناً ويقصم أهله.... بني مكرم أهل المكيدة والمكرِ
فهم عمدة الداعي الخبيث وهم له.... سيوف ضباها للعدا أبداً تفري
هم القوم أما حصنهم فهو قرية.... لها جانب سدوه بالطين والصخرِ
وفي رأسه خلق عظيم وما لهم.... طعام سوى ما استوهبوا بيد الفقر
يقولون مكراً إن من رام أرضهم.... يحاصرهم ولَّى قتيلاً إلى القبرِ
وما يعلمون الغيب لكن دهاية.... تنَّجوا بها من صاحب النهي والأمر
وهَبْهُ كبعض الشامخات التي هوت.... إلى قبضة المنصور في ساعة اليسرِ
أبعد ثلا يرجى لحصن سلامة.... و(ذي مرمر)سامي الذرى سامي القصر
وهذا.مان النصر والفرصة التي.... إذا انتهزت آلت إلى الحمد والشكرِ(2/349)
وقال صاحب ذي مرمر وهو ابن الأنف الداعي، وهو يومئذٍ محصور في حصنه المذكور، قصيدة يمدح بها الأمير الكبير إدريس بن عبد الله بن داود الحمزي، ويمدح الخليفة: علي بن صلاح، فجَّوب عليه الفقيه: أحمد بن قاسم الشامي المذكور يناقض قوله بأنه في الظاهر بمعنى وفي الباطن خلافه، فهذا شعر ابن الأنف:
سلام على الدار التي في عراصها.... منازل قوم لا يذَّم لهم عهدُ
منازل أولاد النبي محمد.... وحيدرة نعم الأبوة والجدُ
فحاتم هذا العصر إدريس ذو الندى.... وأولاده الأملاك ليس لهم ندُ
إذا جئتهم ياصاح فالثم أكفهم.... ولم لا ومن راحاتها يطلب الرفدُ
وهَنِّ لهم بالعيد لازال عائداً.... عليهم بأحقاب وطالعه السعدُ
وقل إن نأى دار وشط بنا النوى.... فودكم لا يستحيل له عهدُ
ولكن عدتنا من لقاكم جحافل.... وهندية بيض وخطية ملدُ
وخيل كأمثال السعالي شزب.... وفرسان هيجاء لباسهم السرد
جنود أمير المؤمنين التي اغتدت.... فضائله في الناس ليس لها عدُ
أحاطوا بنا من كل باب ووجهة.... وصاروا وهم من دون حاجاتنا سَّدُ
ولكننا في شامخ متمنع.... يقصر عنه الشامخ الأبلق الفردُ
ندافعهم بالله جل جلاله.... وجند إلهي جند من لا له جندُ
وصلى إلهي كل يوم وليلة.... على أحمد المختار ما سبَّح الرعدُ
وهذا جواب الشامي المذكور:
أتتحف داراً بالسلام وأهلها.... أحق به إذ فاتك الفهم والرشدُ
كأنك أبصرت المنازل قفرة.... فحييتها لما ألم بك الوجدُ
وكيف وهم فيها حلول وإنما.... تحيا إذا لم يبق منهم بها فردُ
تقرَّ بأولاد النبي محمد.... وتنكرهم سراً وهل ينفع الجحدُ(2/350)