معنى هذا البيت الأخير: أن أمة محمد ً مجمعة على أن جميع العباد مفتقرون أي محتاجون إلى الله تعالى؛ لأن جمهور الأمة إما عدلية، أو جبرية، وهم القدرية على الصحيح من مذهبنا، إذا ثبت هذا فاعلم أولاً: أن السيد صارم الدين قد ذكر في هذه الأبيات ثلاثة من أئمة الهدى –عليهم السلام- تعارضوا في زمن واحد، وقطر واحد، ومذهبهم واحد، ورمز إلى أن فيهم من هو مقتصد بقول : والله يصفح عمن قد أتى زللاً، إشارة إلى مضمون الآية الكريمة التي يقول فيها: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ }[فاطر: 32]، وإذا قد ذكر السيد أسمائهم جملة فلتقع الإشارة إلى طرف من تفصيل أحوالهم، وقد تردد النظر مني في البداية [بذكر أيهم] ؛ لأن في كل واحد منهم ما يمكن جعله مرجحاً لتقديمه، إما تقدم مولد أو وفاة أو غير ذلك مما لا يخفى وجهه على [من له] أدنى لموح إلى هذه المعاني، فرأيت أن أقلَّد السيد صارم الدين، وأبدأ بما بدأ به في منظومته كما [قد] قلَّدته فيما تقدم من سيرة الإمام يحيى بن حمزة –عليه السلام- وذكر من معه.(2/341)
[أخبار الإمام المنصور علي بن صلاح بن علي (ع)]
فأقول: أما الإمام علي فمراده به المنصور [بالله] علي بن صلاح بن علي بن محمد المتقدم ذكرهما والمنتشر في الأمة فضلهما، وكان مولده في سنة خمس وسبعين وسبعمائة، وأمه غزية من غز ذمار بنت الأسد بن إبراهيم، فنشأ في حجر الخلافة، وتحلى بحلي العبادة والعفافة، واتسعت مملكته، وعظمت شوكته، وقهر السلاطين، وأباد الملحدين في الدين، وشاد دعائم المذهب الشريف، وأقام أركان الدين الحنيف، واعترف بفضله الموالف والمخالف، واكتسى من حسن الصيت أبهى الحلل والمطارف، وشغف بالصيام والقيام، واكتحل السهر في حنادس الظلام، وعمرت بحسن سيرته أمصار الهدى وبواديها، وأمنت بظهور هيبته السبل، وأنست نواحيها، وأطاعه مطيع الأمة وعاصيها، وانفتح له معاقل البلاد اليمنية وصياصيها، وجبرت زيادته في إحياء معالم الدين، والعدل والجهاد، ما فاته من دقائق علم الاجتهاد، وما أخطأت فراسة المتفرسين فيه وناصبيه بعد موت أبيه، كما أشار إليه مولانا الإمام عز الدين -عليه السلام- في مصنفه وهو (العناية التامة بتحقيق مسائل الإمامة)، وساق ما ذكره أهل مذهبنا وغيرهم في ذكر إمامة من ليس بمجتهد، فقال ما لفظه: [قلت] : والذي يظهر لنا والله يحب الإنصاف أن فراستهم فيه صدقت [في هذا المعنى] -يعني الجماعة الذين نصبوا المنصور علي بن صلاح، وسيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى-.
قال: وأنه بلغ في إحكام السياسة وأحكام الرئاسة والاستقلال بالنظر في الأمور وحسن المباشرة لها مبلغاً عظيماً لا مطمح وراءه.(2/342)
قال: وقد كانت له العنايات الجليلة في المقامات الجميلة في حرب سلاطين اليمن، ونكاية الاسماعيلية، وإجلائهم من المعاقل العظيمة، وغيرهم من الظلمة مالم يكن لأحد غيره، وكان له من محامد الصفات ومحاسن السمات مالا خفاء به. انتهى.
فهذا كلام هذا الإمام استشهدت به لما كان مطابقاً للمقام، ولأنه كالحجة في موضع النزاع والخصام ؛ لأنه سبط لأحد الثلاثة الذين [تجاذبوا هذا الزمام]، وقد صرَّح بما يدل على حسن خيمه، وإنصافه من غير تلعثام، ولا تعصب كعادة الأغمار الأفدام، فإذا رضي بهذا الحكم المرتضى فبقية اتباع العترة إليه أصخ وبه أرضى.(2/343)
فصل: اعلم أن هذا الرجل كان في عصره وحيداً، وفي جهاد الجبرية والباطنية ركناً مشيداً، رزقه الله من الكمال والإقبال ما قرَّبه من الزيدية البال، وحسن من معارضيه إليه الإجمال والاحتمال، لما رأوا تصلبه وتسلطه على من يحاول لمذهبهم النقص والإبطال، فإنه فتح ثلا وهو من الحصون المعتبرة الذي لا تنال، ولا يمكن حصرها، ولا الإستيلاء عليها إلا بعد أعمار طوال، وهلاك أرواح وأموال، وكذلك ذي مرمر فإنه حاصره حتى أخرج [منه] أهله بني الأنف في شهر شعبان من سنة تسع وعشرين وثماني مائة سنة، وأول ما حط عليهم فيه في بواقي ثلاثة أيام [من شوال] من سنة ثماني وعشرين، فتكون مدة المحطة سنة وثلاثة أشهر، وفي أيامه كسفت الشمس كسوفا ما قد عهد، حتى رؤيت النجوم معه نهاراً، وذلك في شهر شوال من سنة سبع وثلاثين، ثم تعقبه برد عظيم في هذه السنة، ولما كانت المحطة على ذي مرمر كما تقدم، وخاف ابن الأنف الاستئصال لقلة شحنة الحصن كتب إلى علي بن صلاح بشعرٍ يستعطفه فيه، أوله:
ألا هل فتى مثل السمؤل يوجد.... يناط به حبل العهاد ويعقد
وقد كان تعب عسكر علي بن صلاح، فهم بعد [سماع] هذا الشعر بعقد ذمة بينه وبين الاسماعيلية أهل الحصن المذكور، ورفع المحطة، فكتب إليه الفقيه أحمد الشامي من صنعاء، وكان شاعراً مفلقاً يكره الاسماعيلية، وغيرهم من أعداء أهل هذا المذهب الشريف، وحثَّه بهذه القصيدة على مداومة الجهاد والحصار لأهل الزيغ والفساد، فقال:(2/344)
ما أنت أول من أراد رحيلا.... عن فرقة لا يهتدون سبيلا
قد همَّ غيرك بالرحيل فلامه.... قوم وحمل الذم صار ثقيلا
أترى جنود الله قد حشدت إلى.... ذي مرمر يأتون جيلا جيلا
متبادرين إلى الجهاد كأنهم.... أسد قساورة تحل الغيلا
ما فل حد العزم منهم سمكه.... في الحق لما أن رأوه طويلا
ومن الملائكة الكرام طوائف.... قد أكثروا التسبيح والتهليلا
وتخللوا بين الصفوف بشارة.... للمسلمين وقدَّموا جبريلا
لجهاد أكفر فرقة في رأسه.... في الدين واعتذروا بإسماعيلا
قد بدَّلوا دين الهدى تبديلا.... وكذلك التوراة و الإنجيلا
أخذوا عن القداح ما قدحوا به.... رب السموات العذاب وبيلا
ونفوا كلام الله في فرقانه.... كالطور دُكَّ لآل إسرائيلا
لولا خصائص حكمه لأذاقهم.... صاروا بمكة يتبعون الفيلا
ولدكت الغايات من أركانه.... ألقين فوق رؤوسهم سجيلا
ولأشبهوا أبطال أبرهة الأولى.... وأراهم التحريم والتحليلا
فأتتهم الطير الأبابيل التي.... فكفاهم المنصور ذلك عاجلاً
لكنه فرض الجهاد على الورى.... حد الحسام على القيام كفيلا
وأعز دين الله واستعلت به.... سنن الرسول وشرَّف التنزيلا
قد سد ثغر الباطنية وانتضى.... سيفاً على مرَّ الزمان صقيلا
أردى به ناموس كفرهم الذي.... خدعوا به الغوغاء فخرَّ قتيلا
فاليوم أشبهت الليالي صبحها.... فرحاً وطرف الدهر عاد كحيلا
تلك المكارم حازها ثم التقى.... فخراً عريضاً في الأنام طويلا
في ذروة المجد التي ما رامها.... طرف رنا إلا وعاد كليلا(2/345)