قال بعض العلماء: إنها لما كثرت الفتن، وعظمت المحن في أول دولة الإمام علي بن محمد-عليه السلام- داخل أهل صعدة فتور وملل، وادعى بعضهم على بعض أنه لم ينفق على قدر حاله وماله، فانضربت أمور العسكر، وانقطع عنهم بعض ما يحتاجونه لأنفسهم [وبهائمهم، فاشتغل خاطر الإمام، ولم يتمكن مما يقيم العسكر]، فعوَّل على القاضي جمال الدين علي بن محمد بن هبة الدواري أن ينشئ قصيدة يحرض الناس على الجهاد في سبيل الله، ويحثهم على الإنفاق، فأنشأ قصيدة، وأنشدها في محفل من كبار أهل صعدة، وكبرائهم ورؤسائهم، فبكى عند سماعها جماعة من القوم حتى اخضلت لحاهم، وتعاقدوا في ذلك [الوقت]، وتعاهدوا عنده على بذل الأموال والأرواح بين يدي إمامهم، وعلى الصبر على الجهاد في سبيل الله حتى يأتي الله بالفتح، أو أمر من عنده، وجعلوا ما يحتاجون إليه من ذلك [على] عشرة مقاسم، وألزموا أنفسهم في ذلك مائة ألف درهم، فحمل الفقهاء آل علي بن حسن الهبي النصف خمسين ألف درهم، وحمل علي بن موسى بن جميع الطائي وآل النزاري و آل عليان عشرة آلاف درهم، وحمل أهل درب الإمام والفقيه قاسم بن قرة عشرة آلاف درهم، وحمل آل فند وآل الظاهر، وآل الذويد عشرين ألف درهم، وحمل آل عليس ومن في جانبهم، والحدادون عشرة الآف درهم، وعلى أنهم إذا نجحت المائة الألف أخرجوا بعدها مائة ألف، على هذه المقاسم، وتراضى القوم بذلك، ووطنوا أنفسهم عليه طالت الفتنة أم قصرت، وهذه القصيدة المذكورة:
سرى همه ليلاً وهمُّ الفتى يسري.... فأمسى نجياً للوساوس والفكرِ
وأَرَّقَه خطب عظيم مؤرّقٌ.... لمن كان ذا دين وذا حسب غمرِ(2/311)


تخاذل أهل الدين عن نصر دينهم.... وأجمع أهل المنكرات على النكرِ
وشدتهم في النائبات وصبرهم.... على البؤس والضراء والقتل والأسرِ
على قلة في مالهم ورجالهم.... وكثرة أهل الدين في البر والبحرِ
فقد أظهروا تيهاً على كل مسلمٍ.... وعجباً على عجبٍ وكبراً على كبرِ
فلِلَّه ما في القلب من لوعة الأسى.... ومن حرقة بين الجوانح والصدرِ
فأين حماة الدين من آل أحمدٍ.... وشيعتهم أهل الفضائل والذكرِ
وأين ليوث الحرب من آل حيدرٍ.... وأبناء قحطان الجحاجحة الزهرِ
وأين رجال الصبر من كل عائدٍ.... ومن بطل شهم ومن عالم حبرِ
وأين ذوو الإفضال والجود والسخاء.... طلاباً لوجه الله في السر والجهرِ
وأين الكرام المنفقون تضرعاً.... لكسب المعالي والمحامد والذكرِ
ألا بائع في طاعة الله نفسه.... فيذهب بالسبق المكرر والفخرِ
ألا آخذ من ماله سهم نفسه.... فيحرزه من قبل حادثة الدهرِ
ألا خائف من لفحة الله راهباً.... لنار تلظى بالشرار وبالجمرِ
ألا راغب في رحمة الله طالب.... جناناً من الياقوت والقصب الدرِ
ألا بايع دار الغرور بجنةٍ.... روائحها تسري وأنهارها تجري
ألا شارياً ملكاً كبيراً ونعمةٍ.... بعيشٍ حقيرٍ لا يسوغ ولا يمري
قصوراً وولداناً وحوراً نواعماً.... معرضة للبيع بالثمن النزرِ
فيا معشر الإسلام مالي أراكم.... غفولاً عن الفضل المضاعف والأجرِ(2/312)


ألم يأن أن تستيقظوا عن منامكم.... فقد بان جنح الليل عن شفق الفجر
وأن تستجيبوا داعي الله إذ دعا.... فأسمع ذي سمع ومن كان ذا وقرِ
ألم تسمعوا ما جاء في الكتب وارداً.... عن المصطفى المختار من ولد النضرِ
ألم تسمعوا ما جاء في الكتب والذي.... تولى فراراً عن وعيد وعن زجرِ
كأنكم لم تخبروا عن نبيكم.... ولا تقرأوا ما جاء في محكم الذكرِ
أمنتم عقاب المذنبين جهالةً.... إلى أن حسبتم مثل راعية البكرِ
أليس إمام الحق بين ظهوركم.... ينادي ويدعو بالجهاد وبالنفرِ
أفي فضله شكٌّ أفيه تردُّدٌ.... فمن شكَّ فيه شكَّ في الشمس والبدرِ
أفي عصرنا قد كان أو هو كائن.... نظيرٌ له في الحلم والعلم والصبرِ
عكفتم على دنياكم وإمامكم.... يجاهد أرباب الضلالة والكفرِ
حراصاً على أزواجكم وحطامكم.... شحاحاً وشح النفس من أعظم الوزرِ
خلا عصبة من أهل صعدة صابروا.... على البؤس والضراء في العسر واليسرِ
ليوث تباري بالصوارم والقنا.... بحور تطامى باللجين وبالتبرِ
تواصوا على نصر الإمام وجاهدوا.... على الدين واختاروا الوفاء على الغدرِ
فيهنيهم ما أحرزوا من فضيلةٍ.... ومن شرفٍ يعلو على قمة النسرِ
فهلا سعيتم سعيهم ونفرتم.... إلى نصره بالمرهفات وبالسمرِ
أفي الشرع أن يدعوكم فتثاقلوا.... وتستأخروا من غير شغل ولا عذرِ
أفي الدين أن يَصْلَى الأمور بنفسه.... وحيداً وما منكم معين على أمرِ(2/313)


وأن تبخلوا بالمال عنه وقد سخى.... بمهجته والروح أغلى من الوفرِ
أنيبوا أنيبوا قبل أن تمطر السماء.... عليكم بأنواع المصائب والفقرِ
وينتزع الأرواح والمال عنكم.... علانيةً من غير شكرٍ ولا أجرِ
بخلتم على الله الكريم بفضله.... عليكم ولم تجزوا بحمدٍ ولا شكرِ
وآثرتم الدنيا وعاجل نفعها.... على جنة المأوى فيابيعة الخسرِ
وأحببتم دنياكم ونساءكم.... على الله مولاكم فيالك من وزرِ
كأنكم أرواحكم في حياتكم.... وأرزاقكم من عند أنفسكم تجري
ألا لا ولكن شح نفس نهاكم.... وقد جفت الأقلام بالرزق والعمرِ
ألم تعلموا كم من صحيح منعم.... أتته المنايا بغتة وهو لا يدري
وكم كادحٍ في ليله ونهاره.... يريد الغنى والفقر في سيره يجري
فهل تائب من ذنبه ومراجع.... إلى ربه قبل المصير إلى القبرِ
ومدَّكر يوم الحساب وهو له.... وموقف عدل في القيامة والحشرِ
فذو العرش إما تخذلوه يمدَّه.... على عجل بالفتح منه وبالنصرِ
ولو كان سيف ينصر الدين واحد.... لقمت بسيفي لابساً حلة الصبرِ
ولو كنت ذا مال لأنفقت فضله.... وصدَّق فعلي ما تضمنه شعري
فجردت من غمد القوافي صوارماً.... أحدَّ من البيض المهندة البترِ
ودونكم من فضل قولي مواعظاً.... ومن لم يجد ماءً تيمم بالعفرِ(2/314)


قالوا: وكان في اليمن[الأسفل] الداخلي رجل فقيه من رعية السلطان الملك الأفضل، فلحقه معرَّة من نوَّاب السلطان، فهرب إلى الجبال، وكاتب الإمام علي بن محمد -عليه السلام-.
قالوا: وكان من جلساء الملك الأفضل رجل، يقال له: ابن الراعي، واسمه محمد، وهو يدعي علماً [وفقهاًٍ]، وكان يحسِّن للسلطان القبائح، ويفتيه بأمور تخالف الشريعة، فوقف هذا المذكور على شعر لذلك الفقيه يشكو على الإمام [فيه] ما يلحقه من المعار، ويحرِّض الإمام على جهاد السلطان، فأحسن [إليه] الإمام ووعده بكل خيرٍ ونوال، وتولَّى الجواب على هذا الشاعر الذي مدح الإمام حي السيد مطهر الواثق بجواب فائق، فعمل الفقيه محمد بن الراعي جواباً يوبِّخ فيه الفقيه الشافعي، ويمدح السلطان، وهو هذا:
قفي قبل التفرق يا أماما.... نطارحك التحية و السلاما
فبي شوق إليك ولي فؤاد.... مذاب قد غدا بك مستهاما
أكلفه التصبر والتعزي.... وليس يزيده إلا غراما
عدمت الصبر عنك فلا سلو.... ولا وصل لها يروي الأواما
ومما أضرم الأحشاء آتٍ.... حكى لي عن أخي حمق كلاما
كلاماً من أجال الفكر فيه.... رآءه عند رؤيته حراما
لمعتوهٍ تخيل من أصاب.... أراد بدينه يعطى حطاما
فلم ينتل بما قد قال شيئاً.... ولم يسلم بما فعل الأثاما
تبصَّر في أمورك واختبرها.... وسل إن شئت ترفدك الكراما
فأما من سألت فغير شيءٍ.... إمام الغي لم يشبع طعاما
أتسأل سائلاً أبداً ملحاً.... ولا نكراً لديه ولا احتشاما
وكيف يجود من عضت عصاه.... كلاب الحي أو يعطي المراما
لعمرك ما حذوت على مثال.... وقد أحرزت في الدارين ذاما
وأعجب منك إذ حرَّكت شخصاً.... يريد لنفسه منَّا ذماما(2/315)

143 / 205
ع
En
A+
A-