فقلنا: الخيار للمختار {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ }[القصص:68]، والسعيد من كُفِي، وتخفيف التكليف من اللطف الخفي، فأوصدنا هذا الباب، وطرحنا هذا الجلباب، وسلَّمنا الأمر لوليه، ونطناه بابن رسول الله ً وابن وصيه، [وعلقناه على عاتق منكبه]، فالأمر في فضله غير مشتبه:
إذا نحن بايعنا علياً فحسبنا.... أبو حسن مما نخاف من الفتنِ
وجدناه أولى الناس بالناس عن يدٍ.... واعلم أهل الأرض بالفرض والسننِ
ففيه الذي فينا من الخير كله.... وليس بنا كل الذي فيه من حسنِ
فانقدنا له طائعين، وأتيناه مبايعين، وقلنا له ممتثلين:
رضيناك للدنيا وللدين فارتفع.... على النجم مسموعاً لك النهي والأمرُ
انتهى الموجود من هذه القصة، وهي كما ترى مؤذنة بأنه بقي داعياً إلى أن ولي الأمر الإمام علي [بن محمد] -والله اعلم- أي ذلك كان، وهذا البيت الذي تمثل به هو للأمير شمس الدين أحمد بن المنصور بالله من جملة أبيات مدح بها الإمام أحمد بن الحسين من قبل افتراق الكلمة، والله المستعان على فتن الزمان.
ومن رسائل الواثق البديعة: رسالة وجهها إلى حي الإمام الناصر لدين الله صلاح بن علي، وهي الرسالة المسماة (بالدر المنظوم المفوف بالعلوم) أنشأها بعد قصة خاو وقال فيها:(2/296)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وصلواته على مولانا ملك الخلفاء، ينهي عبده شكاية منه إلى الرحمن، و إلى خليفته إمام الزمان، من دهر يصابح بالعدوان، ويماسي بالخسران، ويضرب بالخذلان ضرب الكرة بالصولجان، كلبه هرّ، ووجهه اكفهرَّ، يسلبني الحركة كما يسلبها فعل الأمر، وألغاني كما ألغي واو عمرو، ويتلَّون كتلون الغُول، فأنا فيه كالحرف المعلول، إن دخل عليه الجازم بطل، وخلي مكانه من العمل وتعطل، وإن تحرَّك وانفتح ما قبله تبدل، يكلفني إخراج حروف الشفة من مخارج حروف الإطباق، وذلك تكليف مالا يطاق، ويتردد بين السعود والنحوس، كأنه أبو قابوس في النعيم والبؤس، الجفاء نوع من جنسه، والعدوان ملزوم لازم أَنِسْه، يلزمني إيجاد فرع من غير أصل، وتركيب نتيجة من غير جنس، وفصل، وإنشاء نتيجة من غير مقدمتين، والحكم بحق بلا تبيين، فله اختلاف الجد في حالات إرثه، وتلون الحرباء في صدقه، ولكنه جعلني كألف بلى كان ألفاً فكتبوه ياءً، وكان منصوباً فرجع إلى الخفض، وأمالوه فعاد إلى الرفض، وكتاء الافتعال والابدال، طوراً بطاءٍ وطوراً بدال، يحمل الشاق، ويكلف المشاق، راحتي فيه متروكة، وحرمتي [فيه] مهتوكة، كالعموم إذا خُصَّ، والطير إذا قُصَّ، يعارضني بالنقيض، وينقلني من اليفاع إلى الحضيض، كعصى موسى إذا ضرب بها الحجر تَنَبجَّس، وإذا ضرب بها البحر تيبس، فأنا مضطرب في الهوان والهون، إن أظهرت فشجون، وإن أخفيت فغبون كأهل الظهور والكمون، إن ظهرت الحركة كمن السكون، وإن ظهر السكون فالحركة لا تكون، أو كزوائد قالون، تثبت وصلاً مع السكون،(2/297)
وتحذف وقفاً إن تلاها القارون، يحكم بما يثبت في الأفكار، كما حكم بالسادسة ضرار، يخيب الأمل، وينسخ قبل إمكان العمل، فأنا فيه معرض للفسخ غير آمن للنسخ، أسير غير مفكوك، ومقيد قيده ملكوك، وهو لا يسمع إلى كلام، ولا يصغي لملام، كالجوهر لا يقبل التجزي والانقسام، يبدل الحلو بالمر، ويرد إلى أرذل العمر، ومن وثقت به زادني وها، كما زادوا للسكت ها، رميت فيه بأفوق طائش، بنزول ولدي لاكتساب المعايش، تأليف أوجب صعوبة التفكيك، وسكون طرأ فقهر التحريك، كمضارع دخلت عليه الجوازم، فالسكون له لازم.
عسى جابر العظم الكسير بلطفه.... سيرتاح للعظم الكسير فيجبرا
وساعد مولانا دهري، فعظم عسري، رفع من دوني رفع خبر إن، وخفضني خفض المجرور بمن، فكأني حذام يخفضني اللازم، وكأنه حيث لرفعه الملازم، قطع على المُغَيَّب، وسمع فيَّ كلام العيّب، قبول الشافعي مراسيل ابن المسيب، فَبَعُد الملتقط للدرر من المغاص والبعد، كالعدم مقطعة الاختصاص، مع الحاجة إلى الهبات والفوائد، حاجة الذي وأخواتها إلى الصلات والعوائد، ومن أعظم البلية، رفع يدي من المنبهيّة، أرسلت ابن عمر نهى فيها وأمر، أحال أهل الكلام مقدوراً بين قادرين، وأمراً بين أمرين، فهذا مقدور بين قادرين، وأمر بين أمرين] والوقوع فرع على الصحة، و الإحالة ليس لها صحة، سلبني أطراف بلدي تعميماً، سلب آخر المنادي ترخيماً:
كما سامحوا عمراً بواو مزيدة.... وضويق بسم الله في ألف الوصلِ(2/298)
فلو نهيت ابن عمر انتهى، وما انتهى إلى ما انتهى، وما ارتفع إلى ما ليس من أهله، {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ }[يونس:16]، فما همَّ بها، ولا لفت لبته لها، واحتملت الإعراض احتمال الجوهر للأعراض، وصرت لطول المدة وعظم الشدة أرى حقي مغصوباً، وعملي مسلوباً، فأنا قلق الوساد، أعدَّ في الأفراد كالصفة لا تعمل على الإنفراد، كأن الولد سوراً على البلد، فلما ذهب الناصر تعدى العدو ولا حاصر، نسيت علياً وتركته نسياً منسياً، وقد اختار في خدمتك الفنا بالبيض والقنا، وخلفته في الأولاد بإقامة أهل العناد، وإمهال البلاد، فأكثروا فيها الفساد، وسينشد لسان حاله يوم يبعث كل حي لسؤاله:
ما كان هذا جزائي إذ أريق دمي.... أمام جيشك بالهندية الخذمِ
أن تتركوني منسياً أصيح صدا.... أو تخلفوني بسوء في ذوي رحمِ
ابناي أما صلاح فهو منتجع.... يطلب الرزق إشفاقاً من العدمِ
وصنوه حلَّ في ذروان منتحباً.... من الجفا جفنه الوكَّاف لم ينمِ
ووالدي رجل في سنه كبر.... بمشقص من صروف الحادثات رمي(2/299)
أرسل الله على خاو طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، لقد كان طريق فتنتي وسبب محنتي جُعل ذنباً لا يغفر، وحوباً لا يكفر، والتوبة للذنب مسقطة، وإنكار إسقاطها سفسطة، إذا كان الذنب حقاً والجرم صدقاً، كيف وعالم الغيب برأني من العيب برآءة عائشة من الريب، فمن قال سوى هذا، وأعرض عن ذا، ففرية من غير مرية، وذكية من غير مدية، أما أنا فلو وجدت يومئذ الناصر لما فارقت الناصر، ولو تماثلت الاعتقادات، واتفقت الإرادات ما خالف أبو هاشم أباه في الصفة الأخص، ولما جازت الإمامة إلا بالنص، ولكن الخلاف فرقهم ولذلك خلقهم أجازت الأمة المحمدية، أكل الميتة خوف المنية، وشرب المدام إذا أفرط الأوام، وأباح الشرع في القتال، قتل الترس، وإن كان من الأطفال خوف الاستئصال، وأنا خشيت الزوال، ففديت القدم بالنعال، وكنت منذ كنت ناظراً إليّ، ومتعطفاً عليَّ كالواو تدخل للابتداء والحال، وناصبة للاستقبال، وبمعنى أن والعطف والأقسام، والعدد التام وسائر الأقسام، فلما خاب ظني، وأعرضت عني، أصبحت كتاء القسم لا تدخل إلا على الجلالة، بعد أن كان معي كل حالة آلة، أما آن للكسير أن يجبر، ولا للمخذول أن ينصر، ولا للمهجور أن يوصل، ولا للمكلوم أن يدمل، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ }[آل عمران:134]، {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ] }[البقرة:177]، المحفوفون بالثناء، والصفات الحسنى، عادات السادات، سادات العادات، وتغشى ساحات أهل(2/300)