على الأمر بالمعروف، وكونوا أول آتٍ به، وانهوا عن المنكر، وكونوا أول من ينتهي عنه، وتخلقوا بأخلاق الصالحين وأهل الدين؛ فإنها من أعظم الخصال وأعلاها، وإياكم والدخول في أمر المسلمين فإن فيه الخطر العظيم، ولقد علم الله [تعالى]، وكفى بالله عليماً لو حصل لي الخلاص بعد دخولي فيه ما كرهت، والله [تعالى] يعلم قصدي في الدخول، ويعلم سريرتي في ذلك، وأسأله التجاوز والصفح وقبول المعذرة، فهذه خصال تجب مراعاتكم لها على جهة الإجمال، فإنها نافعة بإذن الله، فأما على جهة التفصيل فمراعاة خصال:
الخصلة الأولى: المواظبة على الصلوات في الجماعة، وحضور المساجد والأنس بها، فإنها بركة الأعمال.
الثانية: الاشتغال بدرس العلم، والمجالسة لأهل الصلاح والدين، فإن ذلك يجر إلى كل خير.
الثالثة: صلة الأرحام، والأقارب ومواساتهم مما أعطاكم الله، فإن الله يخلف لكم ويزيدكم في الأرزاق.
الرابعة: بذل المعروف القليل والكثير لمن طلب وقصد.
الخامسة: مجانبة أهل الدول الظالمة، والبعد عنهم؛ فإن القرب منهم فيه هلاك الدين، وهكذا البعد عن أهل الفسوق والمعاصي، فإن مخالطتهم تجلب الشر.
الخصلة السادسة: هذه التعاليق لا تمنع ممن طلبها للقراءة والفائدة، والمأخوذ عليهم كلما وجدوا فيها [من] نكتة غريبة أو خلاف غريب أن يحركوا ألسنتهم بالاستغفار لي، والدعاء بالرحمة، والتجاوز عن الفرطات، فالخطر عظيم والرحمة واسعة، والعفو عظيم، هذا آخر لفظ وصيته هذه.(2/286)


وله وصية [أيضاً] أكبر منها وأكثر فائدة إلا أن تعويلي على الاختصار أوجب الاقتصار على هذه، ومن كلام له –عليه السلام- وقد طالع (تصفية) الديلمي محمد بن الحسن–رحمه الله[تعالى] - قال: [و] لما وقفت على [مجموع كلام] الفقيه الصالح محمد بن الحسن الديلمي في علم المعاملة وجدته قد سلك مسلك من تقدم من مشايخ الطريقة كالجنيد، والشبلي، والبسطامي، وغيرهم، ونقل كلامهم من غير تحريف ولا تبديل، وربما يكون في بعض كلامهم ألفاظ يمكن تنزيلها على أصول الشريعة، ومقاصد الملة، وهم أخوف الناس لله تعالى، وأكثرهم تنزيها لذاته، وأبعدهم عن مقالة أهل الفرق، فلا يظن من وقف على كلامهم الموهم أنهم يقصدون معنى لا يليق بحال الربوبية، ولا يوافق أصول الحكمة، بل همهم تعظيم الخالق، وتطهير قلوبهم عن الرذائل، فهذا ما عندي فيهم إن شاء الله تعالى.(2/287)


ومما يدلُّ على غزارة علم الإمام يحيى –عليه السلام- وتبحّره في علوم الاجتهاد: أنه كان يفتي في بعض الأوقات بمقتضى النظر، ثم يفتي في مثل تلك القضية بعض الناس بما يقتضي عكس حكمها، حتى لقد سمعت أنه سأله رجل، فأفتاه بفتوى في قضية، ثم سأله آخر في وقت آخر نظير تلك المسألة أو هي بعينها، فأفتاه بغير تلك الصورة، فقيل له في ذلك، فأجاب: بأن هذا مراد الله من المجتهد، أو قال: هذا قسم هذا، وذاك قسم ذاك، أو معناه هذا الكلام، والذي يدل على ذلك مانقلته مما نقل عن بعض كتبه الموضوعة في سيرته أنه قال: كتب عبد الله المؤيد بالله يحيى بن حمزة بن رسول الله ً: [و] لا يحل لأحد من المسلمين مخالفة الإمام فيما أمر به من مصالح المسلمين {النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ }[الأحزاب:6]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر:7]، وفي الحديث: ((ليس للمؤمن إلا ما طابت به نفس إمامه )) نعم، الذي يقضي به الشرع المطهر، ويفتى به، وعليه العمل تصويب المجتهدين في المسائل الاجتهادية، والمضطربات النظرية في الفتاوي الفقهية، والمواقع الخلافية بين العلماء، كيف وما زال الصدر الأول من الصحابة في العصور الخالية، والأزمان المتمادية، متصدرين للفتوى مع جري الخلاف بينهم، من غير نكير ولا تجريح، ولا تأثيم فيما يجري في الفتاوي والأقضية،فهذا دليل واضح.(2/288)


نعم: مذهب الناصر-عليه السلام- بطلان طلاق البدعة، لا يعمل عليه، ولا يفتى به، ليس لكونه خطأ فمعاذ الله، ولكنه لا يقوى على النظر، وإذا رأى الإمام منع الخلق عن بعض المسائل الخلافية لمصلحة عظيمة، وجب عليهم الانقياد لأمره، ولا يخالفوه فيما أمر واستصلح، وقد حرَّمنا على من وقف على كتابنا هذا من الحكَّام والمدرسين، وأهل التمييز أن يفتوا بهذا المذهب، ومنعنا من الفتوى به، فلا يحل لمفتٍ الفتوى به، ولا يحل لعامي الدخول فيه بعد منعنا عنه، فمن اهتدى فلنفسه ومن عمي فعليها، فالحذر الحذر عن مخالفتنا، فمن أطاعنا فقد أطاع الله، ومن أطاع الله فله الجنة، ومن عصانا فقد عصى الله، ومن عصى الله فله النار، فنعوذ بالله من النار ومن غضب الجبَّار، فيعمل على ذلك من وقف عليه. انتهى.(2/289)


وقال –عليه السلام- في جواب مسألة التقليد: [وأما مسألة التقليد] فحواشيها ممتدة، وليس يظهر وجوبه، بل لو عبد الله رجل على ظاهر [جملة] الدين من غير تقليد، [جاز ذلك له]، وإن قلَّد جاز له العمل على رأي بعض العلماء والأئمة بترجيح نفسه لما يقرع سمعه من العلم، والورع، والزهادة، وهذا ممكن في حقه، وإن قلَّد جاز له الخروج من مذهب من قلَّده لغرض من الأغراض الدينية، إما لرخصة يعمل عليها، أو اضطر إليها، أو لغير ذلك من الأشياء، أو لأغراض دينية، [ويجوز له أن يقلد إماماً] في مسألة دون مسألة، ولا حرج عليه في ذلك، فإن وجد من يسأله من العلماء جاز له العمل على قوله، [وإن لم يجد عمل على ما يحكى له] من رأي الأئمة الماضين في العمل بأقوالهم، والاهتداء بهديهم، وإن بلغه مذهب من يقلدهم بخبر ثقة جاز له العمل عليه، والرأي المعمول عليه، والنظر الأصوب المقطوع به، وهو تصويب الآراء في المسائل الخلافية، والمجاري الاجتهادية، وكيف لا؟ ! ومجاري المحاورات، ومجالس الاشتوار في الأقضية، والفتاوي، والأحكام افترقت، فأهل الصدر الأول من الصحابة –رضي الله عنهم – بتصويب هذه الآراء من غير تضليل ولا تخطئة، وكل ذلك إمارة على كونها حقاً وصواباً، والأشبه لا معنى له، إذ كل رأي فهو أشبه بالإضافة إلى قائله، ورأي الذي يستنبطه، ولا وجه إذاً له، فمذهب الهادي –عليه السلام- في امرأة طلَّقها زوجها ألف تطليقة من غير مراجعة فهي واحدة حق، ومذهب المؤيد بالله بأنها تبين بثلاث حق، ومذهب الناصر في طلاق البدعة حق، ومذهب أحد الروايتين عن زيد بن علي –عليه(2/290)

138 / 205
ع
En
A+
A-