وهبك جعلت هذا الصبح ليلاً.... أيعمى العالمون عن الضياء
وعلى الجملة فمعلوم أن الإمام يحيى وحسن سيرته، و طهارة سريرته، وصيته في الزيدية، ومحله في العترة الزكية أشهر من أن يحصره هذا المختصر، قال :
وليس يصح في الأذهان شيء.... إذا احتاج النهار إلى دليل
وله -عليه السلام- أربع وصايا، من محاسنها الوصية الثانية، قال فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، سبحان من اختص بدوام القيومية وسرمدية في الوجود، المتعالي بالعظمة والاختصاص بصفات الجلال على كل معبود، الجواد الذي إليه الرغبة في نيل المطالب، و المعهود إليه في إحراز كل مقصود، الذي أرغم بالموت أنف كل متكبر فخور مختال، وجعله طياً لما يسطر من صحائف الأعمال، وقصر به ما اتسع من تنفيس طوامح الآمال، وقطع به ما امتد وطال من مرائر حبال الآجال، وأذاقهم مرارة طعمه، وجعله قاطعاً لوصل الوصال، حتمه على جميع الخلائق بحيث لا محيص لهم عنه ولا زوال، وأرغمهم بقضائه عليهم، ولا مدفع له عن أنفسهم، ولا يدفع في صرفهم دفع دافع ولا حيلة محتال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله شهادة أعدها لخروج النفس بالموت وميقاته، وأجعلها ذخراً لإحراز رضوان الله تعالى والفوز برضوانه [وجناته].(2/281)
وبعد.. فإني أعتذر إلى الله [تعالى] وإلى من وقف على هذه الأحرف من دخولي في هذا الأمر، فما كان لإحراز حطام دنيا، ولا للترفه بشيء من نعيمها ولذاتها، ولكن قصدت لعل الله أن يظهر كلمة الدين على يدي، ويظهر أحكام الإسلام، ويمحو ربوع الظلم ورسومه بعنايتي، وتخمد نار الجور وتركس آثاره، وتحيا معالم الدين بعد اندراسها، فما تراد الإمامة إلا من أجل هذا، ولا تكون مقصودة إلا بحصوله، وإن كان المقصود منها خلاف ذلك، فهي وبال على صاحبها، ووزر على كل داعٍ إليها، وفي الحديث عن النبي ً أنه قال: ((لا تسأل الإمارة؛ فإنها يوم القيامة حسرة وندامة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها))، فنعوذ بالله من خسران النفوس، والتورط في متا لف الأطماع، وأنا أستغفر الله العظيم من تفريط جرى مني في نصرة مظلوم، أو إعانة مسكين، أو إغاثة ملهوف، فما كان ذلك إلا من أجل تقاعد الخلق عن نصرتي، والإعراض عمَّا دعوتهم إليه، والإكباب على تحصيل أغراض حقيرة من الدنيا لا نالوها فينعموا، ولا أعرضوا عنها فيستريحوا، فصبرت على الخذلان والنكوص عن نصرة الدين حتى يقضي الله لي بأمره، و يجيرني بجيرة من عنده على هم وغم من مقامات الظلم، ومعانات الشدائد، وارتكاب الفجور، والتلبس بالفواحش، وكانت لنا الأسوة برسول الله ً في إقامته بمكة على مكابدة وشدة وصعوبة في الأمر حتى فرج الله عليه بإنجاز ما وعده من إظهار الدين بمراغم المشركين، ثم أقول: حق على من كان الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والقبر مقره، وبطن الأرض وطنه ومستقره، واللحد(2/282)
[ضامه]، والدود أنيسه، ونكير ومنكر جليسه، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، أن لا يزال فكره [إلا] في الموت وأهواله، ولا همة له إلا في انقطاع العمر وزواله، ولا ذكر إلا له، ولا فكر إلا فيه، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبر إلا لوقوعه، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا حوم إلا حوله، ولا انتظار إلا لنزوله، ولا تربص إلا لهجومه، وخليق أن يعد نفسه في الموتى، ويراها في أصحاب القبور، وكل ما هو آت قريب، والبعيد ما ليس بآت، ومصداق ذلك ما أثر عن صاحب الشريعة- صلوات الله عليه-((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ))، ثم إن وصيتي إلى أولادي، والأقارب، وسائر الإخوان وأهل الصلاح، وأرباب الديانة، والتقوى، والمسلمين، أن يشركوني في صالح أدعيتهم، بالتجاوز عن الفرطات، وإسبال الستر بمغفرة الخطايا في الأوقات المباركة، والأوراد الصالحة المتقبلة، ومجالس التدريس، وأدبار الصلوات، ثم أقول متضرعاً إلى الله [تعالى] في قبول معذرتي وغفران ما يعلمه من خطيئتي، في سري وعلانيتي: اللهم، يا من هو المتعالي بجلال العظمة والكبرياء، والمستولي بسلطان القدرة على ملكوت الأرض والسماء، والباسط بجناح الرحمة لكل من بعد من خلقه، ومن قرب ودنا، نسألك بكلماتك التامات، ونور وجهك الذي ملأ الأرض والسموات، أن ترحم عن النار وإصلاء الجحيم رؤوساً تطأطأت خضوعا وتصاغراً لهيبتك، وألاَّ تشوي بها وجوهاً قد خشعت من خيفتك، واشتملت على أعين قد بكت من خشيتك، وعلى أسماعٍ قد أصغت إلى سماع ذكرك، وموعظتك، و على خدود قد سالت عليها الدموع وجرت إشفاقاً من(2/283)
سطوتك، وعلى ألسن قد تحركت بالاستغفار والعذر عن معصيتك، ونطقت بأنواع التقديس وضروب التحميد، وأقرت بمعرفتك، أو تغل بأغلال الحديد رقاباً قد خشعت حذراً من رهبتك، أو تحطم بالنار أصلاباً طالما أنحنت لأداء فرائضك وعبادتك أو تطلع النار على أفئدة مشتملة على العلم بتوحيدك وحقائق صفاتك وكنه معرفتك، أو تقرن مع الشياطين جنوباً قد تجافت عن المضاجع إسراعاً ورغبة في طاعتك، أو تشوي بالنار أكباداً لها تطلع إلى نيل عطائك وتكرمتك، أو تصهر بالحميم بطوناً قد انصرفت عن أكل الحرام والسحت خوفاً من رهبتك، أو تقطع بكلاليب النار معاء قد ضميت بالصيام تقرباً إلى إحراز مغفرتك، أو تحرق بسعير النار ولهبها أبداناً طالما مدت أكفها لنيل عطائك وهبتك، أو تسيل بالصديد فروجاً قد تحصَّنت من حرامك، وانحرفت عن معصيتك، أو تقرن مع النواصي أقداماً طالما مشت إلى المساجد طلباً لإحراز ثوابك ومنتك، أو تمزق بالنار جلوداً قد اقشعرت من خوف وعيدك وعظيم سطوتك، فلا وعزتك ما أسبلت العيون واكفَ العبرات إلا إشفاقاً من غضبك وعقابك، ولا طوَّلت العكوف ببابك إلا طمعاً في مغفرتك وثوابك، ولا بسطت النفوس أكفها إلا رجاء لنيل رحمتك، فقد مددنا إليك أيدي السؤال واستمطرنا الجود من عطائك الواسع وعظيم النوال، فقد سألنا ما عندك واثقين، فلا تردنا بالحرمان خائبين، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة قمين.(2/284)
ثم إن هذه التعاليق التي جمعتها تحفظ وتبسط لمن طلبها بالحفظ والصيانة، لعل الله أن يقسم منها ثواباً، فقد وقعت العناية في تأليفها ليحصل أخذ الفوائد منها، وتكون عوناً لمن وقف عليها على تحصيل مراده، وتسهيل مقصده بالتسهيل والتقريب، وما كان من غيرها من سائر الكتب فهي موقوفة على الأولاد، وعلى المسلمين عموماً للقراءة بالحفظ والصيانة، ثم كتاب (الانتصار)، إن نفس الله بالمهلة فالنية صادقة في إتمامه على النحو الذي قصدته، وإن حالت الآجال دون إتمامه والعياذ بالله وقع الاجتهاد في بعض من خصه الله بإتمامه على الأسلوب الذي اخترته فيه، فالرجوى في الله عز سلطانه أن ينفع به صالح الإخوان الطالبين للعلم المنقطعين في طلبه، الشاغلين أنفسهم في تحصيل الفوائد، ثم إني أوصي الأولاد، وسائر الأرحام والأقارب بتقوى الله تعالى، ومن بلغته وصيتي من سائر الإخوان والمسلمين، فإنما هي الجُنَّة من النار، وبها يحصل الفوز والسلامة من غضب الله وسخطه، وانتظام أموركم تحصل بالألفة والمحبة، وصلاح ذات بينكم بالمواصلة والتوادد والتراحم، فإن الله تعالى يقول:{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ }[الأنفال:1]، وفي الحديث: ((إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام ))، وإياكم والتقاطع والبغضاء فإن فيها هلاك الدين، وحل نظام الأمر وإفساده، ولا تطلبوا الدنيا فإنما هي السم القاتل، والسناد المائل، ولا تأسفوا على ما فات منها، فإنها منقطعة عن أيديكم وإن حرصتم عليها لا محالة، واعملوا للآخرة، فإن العمل لها من أنفس الذخائر، وكونوا حريصين(2/285)