قال: فلما بلغتهم دعوة علي بن صلاح لم ينظروا فيها نظر التحقيق، ولا قابلوها بما يجب [لها] من مراعاة ما ذكره –عليه السلام- أعني الناصر، وقد كان الواجب عليهم اختباره فهو أسبق بالدعوة، وكلامه داعٍ إلى الصواب، سالك منهاج السنة والكتاب.
قالوا : ومن هاهنا ثارت الاعتراضات، وتأججت نار المنازعات.
قال السيد الهادي: وكانت أمور لا حاجة إلى استقصائها، وكانت وفاته بعد موت السيد يحيى بن الحسين بمدة قريبة، وقبره بالجبوب في سودة شظب مشهور مزور، ولا عقب له فيما حكاه [حي] السيد العلامة صلاح بن الجلال.(2/276)
[الثاني: الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة –عليه السلام-]
فصل: وثانيهم الإمام الصوَّام القوَّام، علم الأعلام وقمطر علوم العترة الكرام، حجة الله على الأنام، المؤيد بالله: يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم بن يوسف بن علي بن إبراهيم بن محمد بن إدريس بن جعفر بن علي التقي بن محمد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب –عليهم السلام-، كان الإمام يحيى عليه السلام في غزارة علمه، وانتشار فضله وحلمه، حيث لا يفتقر إلى بيان، ولم يبلغ أحد من الأئمة مبلغه في كثرة التصانيف، فهو من مفاخر أهل البيت، وعلومه الدثرة من مناقب الزيدية، وكان مع الإمام المطهر بن يحيى في أول شبابه يوم قضية تنعم، فقال: في هذا الولد لله ثلاث آيات: علمه، وخلقه، وخطه، وسمع يوم موته هاتف يقول: إمام علم [وهدى، أما الجهاد] فبدأ واتفق له –عليه السلام- زمان مساعد في شبيبته، في خلو البال، وعدم الاشتغال إلا بالتصانيف، والجمع والتأليف، فلما دعا –عليه السلام-، وكانت دعوته -عليه السلام- في يوم ثاني من شهر رجب من سنة تسع وعشرين وسبعمائة، وقام مناصباً للأعداء لم تسعده الأيام إلى كل المرام، فأكبَّ ثانية على التصنيف، وعكف على التأليف، وكان ذلك من أكبر النعم على المسلمين أن أحيا بعلمه ما أحيا، فله الحمد على ما شاء، فصنَّف في أصول الدين (المعالم الدينية) مجلد، و(التمهيد) مجلدان، و(النهاية) مجلدان، و(الشامل) أربعة مجلدات، و(مشكاة الأنوار في الرد على الباطنية) مجلد،(2/277)
و(الإفحام للباطنية الطغام) مجلد، و(التحقيق في التكفير والتفسيق) مجلد، وصنَّف في أصول الفقه (المعيار) مجلد، و(القسطاس) مجلدان، و(الحاوي) ثلاثة مجلدات، وصنَّف في الفقه (العمدة)ستة مجلدات، و(الاختيارات) مجلدان، و(الانتصار) ثمانية عشر جزءاً، وصنَّف في النحو (الاقتصار) مجلد، و(الحاصر) مجلد، و(المنهاج) مجلدان، و(الأزهار) مجلدان، و(المحصل) أربعة مجلدات، وصنَّف في المعاني والبيان (الطراز) مجلدان، وله (الأنوار المضيئة في شرح السيلقية)، و(الديباج المضيء) مجلدان شرح نهج البلاغة، و(الإيضاح) مجلد، صنَّفه في علم الفرائض، وصنَّف (التصفية) في الزهد، ومن تصانيفه الرسالة الملقبة بـ(عقد اللآلي في الرد على أبي حامد الغزالي) مختصر، وله (الرسالة الوازعة للأمة عن الاعتراض على الأئمة) مختصر، وله (جواب عن مسائل سأله عنها حي الفقيه أحمد بن سليمان الأوزري )، وله غير ذلك من الوصايا والحكم والآداب، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام خيراً، فما هو إلا آية في الزيدية، وحجة ظاهرة على جميع البرية.(2/278)
وما العجب!! إلا ممن كان في زمانه من العلماء، ونحارير [الزيدية] السادة العظماء، كيف جحدوا ما هو كالشمس ضياء، والنجوم رفعة واعتلاء، حتى كابره بعضهم وعانده، ووضع من شأنه ما قلَّت به الفائدة، حتى قال بعض علماء عصره: ما جمع الإمام يحيى كتاباً إلا وأنا أعرف أمه؛ إلا (كتاب التحقيق) فإني وقفت عليه، ولم أعرف له أماً مدة من الزمان، وأخذ يعجَّب الناس، ويقول: هذا مولود لا أم له!! قال: حتى وقفت على كتاب (البستي في التكفير والتفسيق) فرأيته أصلاً لهذا الكتاب، وعرفت أنه الأم، فانظر واعجب من هذا العالم على زعمه وكثرة تحامله وجهله، قل {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ }[البقرة:23]، على أن الإمام –عليه السلام- [قد] كان كثير التواضع، وعديم التبجح بمصنفاته، حتى كان لا يسميها إلا الحواشي ذكر ذلك في وصيته فتسميته لتصانيفه بهذا الاسم شيء لا يفصح به أدنى المؤلفين، ما ذلك إلا لكرم أخلاقه، وطيب أعراقه.
قالوا: وكان -عليه السلام- من جملة من اشتغل بالتصنيف عن الإقراء والتدريس، وهم جماعه مشهورون و كان دأبهم الاقتصار على ذلك، ومنهم من جمع هذا وهذا.(2/279)
قال في (كاشفة الغمة): وكان مع غزارة علمه لما ناظره السيد يحيى حصره وظهر عليه، حتى قال السيد يحيى وقد علق تلك المسائل التي وقع فيها المراجعة، وهي قدر اثنتي عشرة مسئلة، أجاب الإمام عليها بكذا وهو غلط، وفي هذه بكذا وهو غلط، وغلَّطه في أكثر تلك المسائل، قال: وكان المتولي لا يرادها عن السيد يحيى ولده الهادي بن يحيى، واعلم أن المناظرات سهام تخطي وتصيب، فكم من عالم مبرز إذا جوثي للركب، وطولب البحث تشتت نظره وتقالبت فكرته، وتبلدت عليه قريحته، ورأيته لاحقاً، وإن كان من قبل سابقا، ولهذا قال العلماء في حق الحاكم: إنه يستحضر أهل العلم في حال قضائه؛ إلا أن يكون ذلك يشغله عن استيفاء النظر، ويذهب جودة أفكاره.
قلت: ويؤيده أن الرواة ذكروا أن الحريري صنَّف من (مقاماته) قدر أربعين مقامة، وتقدم بها إلى حضرة الوزير أنو شروان بن خالد، فلم يصدق دعواه جماعة من أدباء بغداد، وقالوا: هي لمغربي مات، ووقعت أوراقه مع الحريري، فأمره الوزير بإنشاء رسالة، فلم يفتح عليه بشيء، وقام خجلاً، فهجاه علي بن أفلح الشاعر بقوله:
شيخ لنا من ربيعة الفرس.... ينتف عثنونه من الهوس
والقصة مشهورة، وكما لم يقدح هذا في غزارة علم الحريري وفصاحته، فكذا إن صحَّ أن الإمام يحيى أحصر، فلم يقدح ذلك في تبحره في العلم، فإن الحريري لما خلى بنفسه أنشأ العشر الآواخر من مقاماته، وأرسل بها إلى الوزير واعتذر أن هيبة الحضرة الوزيرية أدهشته، ففهم الوزير نزاهته مما نسبه أعداؤه إليه؛ لأنها عادة الأضداد والحسَّاد، ولله القائل:(2/280)