[أشار –عليه السلام- إلى ما أشار إليه الوالد –رحمه الله- وذلك أن الله تعالى أكرم الإمام في حال الوقعة بكرامة عظيمة]، وهي: أن الله [سبحانه] أرسل غماماً عظيما فطبق الآفاق، فلما حصل ذلك من جهة الله سبحانه وتعالى خرج الإمام –عليه السلام- تحت الغمام في جماعة وافرة من أصحابه، وأمعن الأعداء في طلبه وقد حجبه الله عنهم، وإلى هذه الكرامة الإشارة [بقولهم في الدعاء له] في الخطبة: الصوَّام القوَّام المظلل بالغمام. [تم ذلك برواية السيد العلامة شمس الدين أحمد بن عبد الله بن الوزير، عن جده جمال الدين الهادي بن إبراهيم]، تمت.(2/251)


[أخبار الإمام المهدي محمد بن المتوكل علىالله المطهر بن يحيى (ع)]
وسبطه المنتقى عادته آونة.... وسالمته يسيراً آخر العمرِ
وكان فتح آزالٍ من فضائله.... من بعد يوم شديد الحر مستعرِ
هو: الإمام الأفضل، والطراز المكلل، المهدي لدين الله محمد بن المتوكل على الله المطهر بن يحيى المقدم ذكره [قبله]، كان -عليه السلام- ممن حاز الفضائل بتمامها في ضمن رسوخ أصولها، وسمو أعلامها، نشأ على طريقة سلفه الأبرار، وآبائه الأقمار، لكنه جنح عنه من أهل عصره الجزيل، وما آمن معه إلا قليل، هذا على تبريزه في العلم، وبلوغه فيه درجة الاجتهاد، وحوزه قصبات السبق في مضمار الإصدار والإيراد، فله تصانيف شاهدة له بما ذكرته في الأصول والفروع، ومن محاسنها (المنهاج الجلي في فقه زيد بن علي) أربعة مجلدة، وله (عقود العقيان في الناسخ والمنسوخ من القرآن) ضمنه من علم التفسير والقرآن فرائد ثمينة، وفوائد بالتحقيق قمينة.(2/252)


وحكي أن الإمام يحيى بن حمزة لما وقف على كتاب (المنهاج) راقه كثيراً، واستجاد تفريعاته؛ لأن طريقة الإمام فيه توسعة التفاريع، ومن نظره بعين الإنصاف علم غزارة علم منشيه ومؤلفه، إذ كان فقه زيد بن علي –عليهما السلام- ليس بالكثير، فوسَّع نطاقه وكثَّر أطواقه، ومدَّ رواقه، وكاثف أوراقه، ثم له –عليه السلام- موضوعات في سائر الفنون، ففي العربية كتاب حسن سماه (الكواكب الدرية في شرح الأبيات البدرية) تكلم في إعرابها، وما تحتمله من وجوه الإعراب، وأورد من أقاويل النحاة ومختارات أكاليم علمائها ما يشهد له بسمو المنزلة في هذا الفن، ثم خاض في شيء من الكلام، ومسائل الإمامة، وله في الكلاميات رسائل وجوابات مسائل، اشتمل عليها المجموع المهدي، منها: (الجواب المنير على مسائل أهل الظفير)، و(فلق الإصباح في جواز الإصلاح)، و(العضب الجزاز في تصحيح الجواز)، و(النفحات المسكية في جواب مسائل الشيخ ابن عطية)، وهي أكثر من أن تحصر، فمن أراد مطالعتها عمد إلى المجموع المذكور، وأعمل نظره في موضوعاته، فإن القليل يدل على الكثير، والبرق يخبر عن النوء المطير، وعلى الجملة فقد كان من عيون أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن نظر آثاره، وأعمل في رسائله أفكاره عرف استحقاقه للإمامة، ولو لم يكن إلا ما أودع كتبه من الحواشي والتصحيحات، وطرق السماعات والإجازات، فذلك يدل على العلم، وإليه انتهى السماع المحقق في كتابين:(2/253)


أحدهما: (الكشَّاف) فإنه –عليه السلام- أجاد فيه القراءة والتحقيق، على حي الفقيه العلامة محمد بن عبد الله الكوفي، حتى بهرت معرفته فيه، وله: حواشي معروفة في النسخ، وعلامة حواشي الإمام [(م)] مفردة، وكل كتاب في هذه الجهة لم يصحح على كتاب الإمام، فهو عند أهل هذا الفن غير صحيح الصحة المحققة.
والكتاب الثاني: (شفاء الأوام) إسناد الأكثر إلى سماع الإمام، وهكذا في (أصول الأحكام)، وأمهات كتب العترة –عليهم السلام-، وكانت قراءته في الفقه على والده الإمام المتوكل، وسماع أكثر كتب الحديث، وحقق قراءته في الفقه على الأمير العلامة المؤيد بن أحمد، وكان الأمير المؤيد ممن قال بإمامته، وسار تحت ألويته، وفي بعض رسائل الإمام أن الأمير المؤيد كان معه في محطة الحضائر، وهو ابن ثمانين سنة أعني الأمير المؤيد في هذه السن العالية، وهو في محطة الإمام مرابط في الغز وعساكرهم.
وكانت قراءة الإمام في الأصولين على يد الفقيه العلامة شرف الدين محمد بن يحيى بن حنش، وقراءته في العربية على الفقيه الوشاح، وكان الإمام –عليه السلام- كثير الشغف بالعلم، كثير البحث عن سائر العلوم، ووصل إليه الفقيه محمد بن عبد الله الكوفي [مرة] أخرى من العراق، فأعاد عليه القراءة في (الكشَّاف) حين أهداه إليه، وهي النسخة المعتمدة في اليمن، نقلت أكثر ما هنا من (كاشفة الغمة) لحي السيد العلامة الهادي بن إبراهيم [بن علي] المرتضى، وقد أجاز [لي] فيها مولانا الصدر العلامة صارم الدين ناظم هذه المنظومة الذي هذا المختصر شرح عليها.(2/254)


قال في (الكاشفة) المذكورة: لكن الإمام –عليه السلام- مع حوزه لهذه الخصال الشريفة لم يخل من تحامل علماء الظاهر عليه، وأنكروا فضله إنكاراً لا يليق بمعارفهم الوافرة، وحكي عنهم في المعاندة أشياء كثيرة، منها أن مقعداً أركب دابة، وجيء به للإمام –عليه السلام- فمسح على جسده بكفه الشريفة، ودعا له بالشفاء، فشفاه الله من فوره، وأزال عنه الإقعاد، وهي قصة مشهورة، و[في] كراماته مسطورة، شهد بها جماعة من الفضلاء، فبلغ ذلك أهل الظاهر فساءهم، وأخذوا يقولون: ليس ذلك من دعاء محمد بن المطهر، وتأولوا ذلك على أن هذا الرجل كانت به علة تزول بالهزهزة بهذا اللفظ.
قالوا: فلما ركب الدابة هاضته وهزهزته، فسموها (علة الهزهزة) من هذا الوجه اللطيف، وكان كثير الحلم والصبر، مشهوراً بمكارم الأخلاق، وكثرة الاحتمال، وانثالت عليه الاعتراضات من كل جهة من مسترشد ومتعنِّت، والمتعنِّت أكثر من المسترشد، وكان يقول في بعض رسائله: هذا الفرس وهذا الميدان، فهلموا - رحمكم الله - إلى الامتحان، ومن غرائب ماسئل عنه في المعرفة عن غور علمه أنه سئل عن الجن وصفاتهم ونكاحاتهم، وما لا مدخل له في علوم الإمامة، فأجاب في ذلك أحسن جواب، ومن كلامه في بعض رسائله في معرض التألم من الاعتراضات ما هذا لفظه، وقد وصف المعترض: لم يعض بناجذه على تمييز، ولا فرَّق بين تحليل وتحريم، وإيجاب وتجويز، إعتراضاً بغير تقدير، ولا هدى ولا كتاب منير، والمناقب مثالب، والراكدات سوالب، والإصابات مصائب، والراجح شائلاً، والحالي عاطلاً، بغير برهان ثاقب، بل ركز عيون وتكسير حواجب.(2/255)

131 / 205
ع
En
A+
A-