فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:249]، فاصبروا على منابذة الأشرار، واجأروا إلى ربكم بالدعاء والاستغفار، يمدكم بالنصر والاستظهار: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة:250]، {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف:108]، {فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[آل عمران:20]، {فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[التوبة:129]، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
وكان –عليه السلام- كثير التواضع، حتى كان في أيام إمامته يخرج بجماعة من أصحابه يقرأون عليه في ناحية من جبل، فإذا فرغوا من القراءة، إحتطبوا للإمام، فيأخذ الإمام شيئاً من الحطب فيحمله معهم، فيسألونه ترك ذلك، فيأبى، وكان يقول أنا من الحطب إلى الحطب.(2/246)
قالوا: وكان في وقته السراجي الشريف الآتي ذكره، وكان يؤذيه بكلام فيه شناعة وبشاعة، فيشمخ الإمام عنه عرنين الفضل، وكذلك شيعة الظاهر صمموا على إنكار فضله، وقالوا: صمّي صمام، لا خلف ولا أمام، وقد أشار إلى ذلك السيد الواثق في نسبة أهل الظاهر إلى شقاق أبيه وجده وتعصبهم عليهما، وكان الواثق هذا قد دعا إلى نفسه كما سيأتي، فكتب إليه بعض الفضلاء يحثه على عدم المعارضة لحيّ الإمام المهدي علي بن محمد، والدخول فيما دخل فيه الناس، ويقول :
يا ابن المطهر والإمام الأبلج.... دع عنك ذا الأمر المريج اللجلج
ودع ا لعدول إلى العدو فإنه.... للسم يكتمه وإن لم يخرج
فافزع إلى المهدي أخيك ولذ به.... أعني الإمام علي أمان الملتجي
فهو الذي شهد الأنام بفضله.... وكذا شهدت فكيف عنه تحتجي
فأجابه السيد الواثق المذكور بقوله:
جاز الرجال على الطريق الأعوج.... ومشوا على الشبهات مشي الأهوجِ
والناس هم صنفان من مستدرجٍ.... صنف وصنف ليس بالمستدرجِ
شقوا عصا الإسلام و اجتاحوا الهدى.... فتراهم في ليل معضلة دجي
شجج الغراب بشقها فتصدعت.... ليت الغراب بشقها لم يشججِ
لما رأوني قائماً مستصحباً.... عزماً يفلّق هام كل مدجج
قالوا: عصيت كما دعوت وأحمد.... داعٍ وليس لأحمد من مخرجِ
قلنا: صدقتم دعوتي مشروطة.... بفساد دعوة أحمد البر النجي
حتى أتت أفواج حوث ثلة.... تختال بين مقمصٍ ومتوجِ
فبما هم نقضوا إمامة أحمد.... هل كان فيه نخلة في المنسج
وبأي شيء زحزحوها عن فتى.... متقمص بردائها متتوجِ(2/247)
ورث الخلافة عن أبيه وجده.... وافقت عشك يا حمامة فادرجِي
إن يخذلوه فإنه مستنصر.... بسواهم من أوسه والخزرجِ
أو يتركوه فإنما هو واثق.... بالله خالقه غياث الملتجي
فأبوه قد قاموا عليه ولم يبل.... بل قال: شدي أزمة تنفرجي
وكذا المطهر جده من قبله.... قاموا عليه بصولة وتحججِ
قالوا: وكان الإمام المطهر من أفصح أئمة العترة، فإن في الرواية أنها وردت عليه (الرسالة القادحة من الباطنية)، فجوَّب عليها بسرعة، وقال في صدر الكتاب:
أما بعد.. فإن (الرسالة القادحة) وردت إلى المشهد المقدَّس المنصوري - سلام الله على ساكنه - بمحروس ظفار، حاسرة لثامها، عاثرة بزمامها، كاشرة في ابتسامها، ترمي في غير سدد، وتكبو في القاع الجدد، لابسة في ظاهرها ثوب الدين الشريف، يشف من تحتها مذهب منشيها السخيف، قد جمع فيها من أغباش جهالاته، وآجن ماء ضلالاته، ما يدل على باطن إلحاده، ويشهد بعناده وإجحاده، تارة يشير إلى نفي صفات النقص والكمال، ومرة يقدح في عدل الكبير المتعال، حتى قال إلى غير ذلك من الترهات، وزخارف الجهالات، وتصور أن ذلك يخفى على أهل العقول، وأن أحداً عندها لا يحسن أن يقول، ولا في ميدان نقض شبههه يجول.
وإذا ما خلا الجبان بأرض.... طلب الطعن وحده والنزالا
وكان كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه، [شعراً] :
ومن لم يتق الضحضاح زلت.... به قدماه في البحر العميق(2/248)
قال حي السيد العلامة صلاح بن [الإمام] إبراهيم بن تاج الدين : وكنت يومئذٍ بين يد الإمام المطهر -عليه السلام-، فأمرني بتولي جوابها، وهتك حجابها، وكشف نقابها، فامتثلت أمره؛ لأنه حتم يجب إسعافه، ولا يجوز خلافه، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}[النساء:59]، وهو ولي أمرنا، وخليفة عصرنا، إلى كلام طويل، وممن اعترض على الإمام المطهر أيضاً: الأمير محمد بن الهادي بن تاج الدين، ونقم أموراً في سيرته المرضية، وأنشأ في ذلك رسالة، فتولى جوابها [حي] السيد صلاح بن الإمام إبراهيم بن تاج الدين المقدم ذكره.
قال-رحمه الله تعالى- وقد أخذ في جوابها: ورأيت أن أتولى الجواب عن مولانا أمير المؤمنين لوجوه:
أحدها: أنه طلب الجواب من كافة المسلمين الإمام والمأموم.
الوجه الثاني: أن فيها مسائل تعلق بمولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين، تصورت أني أعرف من غيري بجوابها؛ لكثرة خلطتي له، ولما عرفته منه في ذلك.
الوجه الثالث: أني خشيت أن يتصدى لجوابها غيري ممن يحب طريقة الاعتراضات والتشنيعات ؛ فيؤدي ذلك إلى أمور تقبح أواخرها. انتهى.
[و] كانت دعوته المباركة في سنة ست وسبعين وستمائة سنة، ومات في سنة سبع وتسعين وستمائة سنة، ومشهده في ذروان حجة مشهور مزور.(2/249)
وأما قول السيد صارم الدين فيه: من ظللته الغمام… البيتين، فما وقفت على تفصيل القصة فيهما، فإن يسهِّل الله لي طيافة صنعاء، ألحقت ما وجدته من ذلك في هذا المكان بعون الله [تعالى] وحسن توفيقه، وأوصيت من تمكن من شيء من ذلك بعد وفاتي أن يلحقه [به] وفوضته، وأجر الجميع على الله تعالى، انتهى.
[تفصيل هذه القصة المباركة المشار إليها، إن الإمام -عليه السلام- كان مرابطاً في جبال التناعم، شاحكاً للملحدين، مرغماً لأنوف المعتدين، وكانت بينه وبين الغز وقعة تنعم في شهر محرم، غرة سنة تسعين وستمائة، وهي قصة مشهورة، أشارت إليها مشاعرة بين ولد الإمام المهدي وبين السلطان المؤيد، ومن الشعر الذي من جهة السلطان قوله:
تنح عن الدست الذي لست له.... سيأتيك فتَّاك يعلمك الضربا
[وكان جواب] الإمام عليه السلام جواباً بليغاً فيه كلام ضخم، [وشعر فخم]، ومن جملته البيت المشهور:
وما في جبال اللوز عار لسيد.... غدت واكفات السحب من دونه دربا(2/250)