فإن الله بعث في كل أمة رسولاً، وأنزل [معه] كتاباً فصل فيه ما أحلَّ لها تفصيلاً، وبيَّن لها ما حرَّم عليها تصريحاً وتعليلاً، {لئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}[النساء:165]، ولما آذنت الدنيا بالوداع، وأزف من الآخرة الاطلاع، بعث [الله] محمداً سيد المرسلين –صلى الله عليه وعلى آله الأكرمين- ختم به الرسالة، وأوضح به الدلالة؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:42]، فحين أكمل الله [له] دينه الذي شرع، وشكر سعيه وصنيعه الذي صنع، نقله إلى دار كرامته، [وأكرمه] بجواره، وقد خلف فيكم الثقلين: كتاب ربكم المجيد الذي {لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:42]، والثقل الثاني: عترتة الطاهرة شموس الدنيا وشفعاء الآخرة، الذين من تمسَّك بهم لم يضل، ومن اعتصم بمودتهم لم يزل، قال فيهم [أبوهم] رسول الله ً: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً : كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).(2/241)
وقال ً: ((ما أحبنا -أهل البيت- أحد وزلت به قدم إلا وثبتته أخرى )) فلم يزل منهم قائم بعد قائم، وآمربالمعروف ناهٍ عن المآثم، [ثم] قال أبوهم ً: ((إن عند كلّ بدعة من بعدي يكاد بها الإسلام قائماً من أهل بيتي، موكلاً بها، ليعلن الحقَّ وينوِّره، ويردَّ كيد الكائدين، [ويبوره] فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكلوا على الله، وقولوا: {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[يونس:85،86].(2/242)
ولما رأيت أهل العصر قد ظهرت فيهم البدع، ونزل فيهم الخوف واتسع، وامتلأت قلوب المؤمنين بالجزع، عقيب أمير المؤمنين المهدي لدين رب العالمين إبراهيم بن أحمد -سلام الله عليه وعلى آبائه الأكرمين-، خشيت استئصال شأفة المسلمين بعلو كلمة الظالمين، فشمَّرت لطلب القائم من أهل البيت عن ساق، حين هدرت شقاشق الشقاق، ونفقت في سوق البغي سلع الظلم والنفاق، و أرجف الظالمون على المسلمين بإرعاد وإبراق، وعقدت للقائم بالإذعان مني مجتهداً، ورضيت بأن أكون [ما بقيت] من ورثة الكتاب مقتصداً، فلم أجد منهم قائماً بذلك أبداً، وانضم إلى ذلك وجود الناصر من العترة الأكابر، ومن شايعهم من ذوي النجدة والبصائر، فتعينت الحجة حينئذ عليَّ، وانتهت نصرة الدين إليَّ، فاستخرت الله تعالى وفزعت إليه، واستعنت به وتوكلت عليه، ونشرت هذه الدعوة الصادقة الجامعة - إن شاء الله تعالى - غير الفارقة، داعياً إلى سبيل ربي [بالحكمة والموعظة الحسنة]، هاجراً في حماية الدين لذيذ النوم والسنة: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شيئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[آل عمران:64]، وهلم إلى العمل بالكتاب الكريم، وسنة رسوله -عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم- أجيبوا داعيكم، ولبوا مناديكم، واتبعوا هاديكم:
شيخ شرى مهجته بالجنة.... وسنَّ ما كان أبوه سنَّه
ولم يزل علم الكتاب فنَّه.... يقاتل الكفار والأظنه
بالمشر فيا ت وبالأسنة
……(2/243)
{يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأحقاف:31]، وقال أبونا ً: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم ))، فإن أجبتموني حملتكم -إن شاء الله- على المحجة البيضاء لا أعدو بكم سنة جدي ً قيد شعرة، ولا أفارق إن شاء الله منهاج آبائي الكرام البررة، ووجدتموني إن شاء الله [تعالى] عادلاً في الرعية، قاسماً بالسوية، على مطابقة الشريعة النبوية، كافلاً باليتيم كفالة الأب الرحيم، حائطاً لأراملكم حياطة المولى الكبير، متخذاً للكبير أخاً شقيقاً، جاعلاً للصغير ولداً شفيقاً، لا أدخر لنفسي إن شاء الله من فيئكم وفراً، ولا أستأثر [من] دونكم وِرْقاً ولا تبراً، القريب عندي بعيد حتى يوفي ما عليه، والبعيد عندي قريب حتى يصل حقه إليه، فلا تضربوا عن نصرتي صفحاً، ولا تطووا [دون إجابتي] كشحاً: {وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}[الأحقاف:32]، ولا تميلنَّ بكم الأهواء، ولا تتفرق بكم الآراء، ولا تغرنَّكم الحياة الدنيا، فإن زينتها تزول وتفنى، ولا تخدعنَّكم زينتها؛ فآمالها سراب، وأمانيها كذاب، وعمرانها خراب، وحلا لها حساب، وحرامها عقاب، وهي مطية الأعمال الصالحة لذوي الألباب، وسوق التجارة الرابحة إلى الرجعة والمآب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ،(2/244)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الصف:10،11]، فشمروا في الجهاد بالجد و الاجتهاد، فإنه أفضل أعمال العباد، وأشرفها في العقبى والمعاد: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:111]، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((مثل أعمال البر مع الجهاد كمثل المجة الواحدة في البحر اللجي ))، وقالً: ((لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ))، {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً [وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] }[التوبة:41]، وأقبلوا إلى إمامكم أرسالاً، ممتثلين ما ألزمكم ربكم تعالى، منتقمين لإمامكم المهدي بثأره، ناعشين دينكم بعد عثاره، موضحين من مذهبكم طامس آثاره، كايلين لعدوكم بصاعه، ذارعين له ما بلغ من ذراعه، فأنتم حزب الله وحزب الله هم الغالبون، أنتم -إن شاء الله - أنجد منهم وأصبر وأشرف وأفخر، وهم أذل وأحقر، وإن كانوا أكثر وأوفر: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ }[آل عمران:139]، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ(2/245)