أحمد بن محمد الرصاص يوليه الظاهر بحيث لا تكون على يده يد، فلم يسترجح الإمام ذلك، فغضب الشيخ، وطلب للإمام الغوائل، فآل الأمر إلى أنه أوهم الحسن بن وهاس أنه أولى بالإمامة منه، فكان من ابن وهاس وشيعة الظاهر أن كاتبوا قبائل الظاهر بالبراءة من الإمام أحمد، وكان الفقيه حميد المحلي يقول: إن اتفق عليَّ أمر، فأشعروا ما ينجم على الإمام من أهل الظاهر، فلما كتب إليه أهل الظاهر بالبراءة لقيوا الأمير شمس الدين بعد خروجه من صنعاء إلى حمدة، فتحدث الرصاص مع الناس من ارتفاع الصبح يحرضهم على حرب الإمام –عليه السلام- إلى نصف النهار، حتى مقته الحاضرون، ثم كتب إلى الإمام كتاباً يطلب منه اللقاء إلى قاعة للمناظرة بشرط أن يكون العسكران مستويين في العدد، فأجابه الإمام بأن هذا طلب معاند لا مهتدي، وأنهم إذا كانوا طالبين الهدى وصلوا إليه، ولهم من الوثائق ما تطيب به أنفسهم، فلم يتفق ذلك منهم، فعزم الإمام على حربهم، وكان زمان شدة وقحط بلغ فيه الصاع النبوي عشرة دراهم قفلة، حتى أكل الناس بعضهم بعضاً بعد أن أكلوا الدواب، والحمير، والأشجار، وانقطعت المناهل، وعدم الطعام، ومات الناس في الشوارع جوعاً تأكلهم الكلاب والسباع، وذلك سنة خمس وخمسين وستمائة، واستمر إلى سنة ثمان وستين، وهلك كثير من العلماء، والفضلاء، ثم بلغ الإمام - عليه السلام - أن ابن وهاس والرصاص ومن تبعهما يريدون أخذ زرع شوابة، وترويع الناس، فأمر الإمام بالتهيؤ للحرب، وركب في أكثر عسكره، وقد كان عسكر ابن وهاس والحمزيين أغاروا وانتهبوا شيئاً من زرع الرعية في غيل شوابة،(2/206)
فتقدم الإمام حتى أشرف على أقطار الوادي، ورأى محطة القوم، فلما رأوه قصدوه، واستدعى ابن وهاس رجلاً أرسله إلى الإمام يقول له: إن العسكر الذين معه قد اختلَّوا، وأن المصلحة الملقى للمراجعة، ولو على ظهور الخيل، فقال الإمام عليه السلام : هذا حال محاربة لا مناظرة، ورجع إلى محطته، ثم سار للمحاربة، فانكسر إحدى رايتيه في عرض السيرة، ووقع في النفوس في ذلك ما وقع، وراجعوه بترك السيرة، فقال: امضوا على اسم الله {لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا }[التوبة:51]، فلما رآهم القوم قالوا لحسن بن وهاس، وللرصاص: ما عندكما في قتال الإمام؟ فقالا جميعاً: ما لحقكم من الإثم فهو في أعناقنا، وجعل الرصاص يقرأ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ }[القمر:1]، ولما سار الإمام إلى قريب منهم حملت عليه خيل الحمزيين، فقاتلهم خيل القاسميين من براقش حتى ردوهم، ثم أقبل الأمير شمس الدين بإخوته، ومعهم الرصاص وابن وهاس يحرضانهم، كل واحد في جانب، فأمر الإمام أخاه إبراهيم بن يحيى وجماعة في وجه الأمير شمس الدين فاقتتلوا قتالاً شديداً، وثارت عجاجة عظيمة واختلط الناس، وانهزم أصحاب الإمام، ولم يبق معه إلا نفر قليل، ثم أحاط به القوم فقاتلهم، وجعل يضرب فيهم يميناً وشمالاً حتى أتى رجل من خلفه فعقر فرسه، ولزم آخر بشكيمتها فانصرعت على جنبها، فهاضت رجل الإمام حتى لم يمكنه الركوب، فطعنه رجل من تفاريخ الدرع طعنة في سرته حتى بلغت إلى كبده، ثم أجهز عليه جماعة، فيهم بعض الشيعة فأقعدوه وفيه رمق، ثم أمرهم ذلك الشيعي بضرب عنقه، فضربها رجل(2/207)
فأبان رأسه، وقد كان ضرب في وجهه ضربتين أو ثلاثاً، ثم حملوا رأسه إلى ظفار، وطافوا به في السكك، ثم حمل جسده الطاهر إلى خيمة الرصاص، فجعل يتكلم ويتبجح بأنه لولا قيامه عليه لما قتل ويظهر ذلك للجهال، ثم دفنت جثته الكريمة في أسفل وادي شوابة، وأقام رأسه الزكي في ظفار ثلاثة أيام، ثم أمر به ودفن مع جسده الطيبة.
قال الإمام المهدي [لدين الله] أحمد بن يحيى –عليه السلام-، وهو الذي نقلت من مصنفه على شرح سيرة (البحر الزخار) هذا الكلام من أوله: ثم إن الأمراء بايعوا لابن وهاس، وكان من جملة من بايعه الأمير الحسين صاحب (التقرير)و(الشفاء)، وكذلك الشيعة الذي رفضوا بيعة الإمام أحمد، وكذلك أولاد المنصور، ولبث ابن وهاس مدة يسيرة، ثم نفرت عنه قلوب الناس، ووقعت مكاتبات إلى السادة آل يحيى بن يحيى مثل الأمير الحسين، وصنوه الحسن الآتي ذكره، فتقدم الأمير الحسين بن محمد لموافقة الشيخ [محمد بن] منصور صاحب عفار بعد مكاتبة وقعت منه، فتلقاه بالإنصاف، وكان ابن وهاس في بلاد الطرف، فلما بلغه ذلك انزعج، وكاتب شيعة الظاهر فوصله من وصل وجرت مكاتبات، وطلب الأمير الحسين المناظرة حيث يأمن فلم تحصل إجابة، فعمل رسالة عامة سماها (النصيحة الصريحة لأهل الأديان الصحيحة)، ثم بلغه دعوة أخيه الحسن، فلما دعا توقف على الظاهر.(2/208)
هذا زبدة ما نقلته من شرح الإمام المهدي [أحمد بن يحيى] –عليه السلام- على (سيرة البحر)، ويلحق بذلك أشياء نقلتها عن غير صاحب (البحر)، منها: أنه استشهد - عليه السلام - في شهر صفر من سنة ست وخمسين وستمائة، وقبره في ذيبين مشهور مزور، وله نذور لا توجد لغيره من الأئمة البدور، وبقبره ينزل الغيث الدرور، و[به] تستدفع الشرور، ويذهب وحر الصدور، وذلك من كرمه حياً [وميتاً]، فإن في الرواية أنه ما كان يعدّ الدراهم، بل يعطي من غير عدِّ، فهو كريم حياً وميتاً.
قالوا: وأعطى ابن هتيمل الشاعر ثلاثة آلاف درهم وثلاث خيل ومائتي فردة ثياب، قوِّم ذلك مع الدراهم بعشرة آلاف درهم، وفي توقيعه أنه وهب ألف فرس وستمائة فرس وسبعين فرساً، أعطى قتادة صاحب مكة ثمانية عشر فرساً، ومن كلام [الإمام] الناصر صلاح بن علي–عليه السلام- يذكره في معرض كرم المهدي أحمد بن الحسين، وكثرة محاصيله، قال فيه: إن أهل زماننا يذكرون كرم أحمد بن الحسين وعطاياه العظيمة، ويجهلون ما كان عليه أهل زمانه من تسليم الواجبات الشرعية، وغيرها من الأموال التي يتقرب بها إلى الله تعالى من نذور [وبر] وإعانات [وتنفلات] حتى قال: ونحن نروي أن الإمام لم يكن يجومك على أحد من الجند هذه الجوامك التي في زماننا هذا، ولا كان في وجهه من الحصون ما في وجوهنا، فإن حصون المسلمين وعهدهم التي لزمنا القيام بها قدر خمسمائة حصن، لكل حصن رتبة و جوامك.(2/209)
قال: وروى لنا بعض السادة بسنده أن بعض أهلنا وصل إلى الإمام المهدي أحمد بن الحسين، وطلبه ثوباً درياً، وفوطة حواشيها حرير لبعض مشايخ آنس، قد كان وصل معه إلى الإمام، فأمر من يطلب ذلك في مخزانه الذي للبز.
قال الراوي: فدخلنا في ذلك المخزان، فوجدناه ملاناً بالثياب الدرية وفوط الحرير، وروي: أن رجلاً في وقت الإمام المهدي نزل حجة يعمل فوطة حرير، وأهلها ينسجون هذه الفوط، والثياب الدرية، فكان كل من وصل إليه قال له: ما نفرغ لك، معنا عمل للإمام حتى أحاط بعمال حجة، فما وجد فيها صانعاً يصنع إلا للإمام عليه السلام انتهى.
قالوا: وكانت في الإمام أحمد بن الحسين - عليه السلام - [من] صفات النبي ًخلقاً وخُلقاً، وكان لا يقول الشعر، وحكى الفقيه سعد بن عواض الذماري: أنه حجَّ، وكان يقعد أحياناً في الحرم، فسمع رجلاً من أصبهان يقرأ القرآن، فقال لسعد: من أين أنت؟ فقال: من اليمن، فقال: إنه يقوم في هذه السنة في ربعها الأول عندكم إمام من أرض همدان، فإن تسمى في أول كتابه المهدي فهو المهدي الذي وعد الله الناس به، فرجع سعد إلى اليمن، وقام الإمام في صفر من السنة المذكورة أولاً.(2/210)