الأبيات.. ثم نهض إلى الجوف، ثم إلى صعدة في ثمان مائة فارس ورجل كثير، فلما انتهى إلى درب الحناجر لقيه الأمير الكبير الحسين بن محمد صاحب (التقرير) وبنو عمه آل يحيى بن يحيى، ومن تبعهم من همدان، وخولان، وقبائل صعدة، وبايعوه فلما استقر بصعدة، وظهر أمره طلب منه أولاد المنصور الصلح، فقبله بعد أن بذلوا ما أحبَّ منهم من النصرة، وكان في خلال ذلك قصة التّنين، وهو رجل مقعد مضت عليه سنون، فمسح عليه فاستوى قائماً بإذن الله [تعالى]، وكان الناس يأتون من البلاد البعيدة ليشاهدوه، وقيلت فيه الأشعار الكثيرة، وقد أشار إلى ذلك ابن هتيمل حيث يقول :
أبعد شهادة التنِّين يعصي.... من الثقلين مأمومُ إمامَه
أتاك كضفدع الغمرات جهراً.... فقام كسمهري الخط قامَه
وما عرف المسيح بغير هذا.... أمعجزة النبوة في الإمامَه
وما انفرد ابن مريم عنك إلا.... بعازر فهو قد أحيا رمامَه
ثم كان الصلح بينه وبين أولاد المنصور على شروط، منها:(2/201)
تسليم تلمص، وقفل ظفار، ومن جهة عمهم عماد الدين [تسليم] حصن مدع، والمكرام بميتك، والجاهلي، وظفير حجة، وشمسان بالجدم، ومنها: كون الولاة في الجهات من تحت يد الإمام، ومنها: إخراج رهائن حاشد وبكيل، ومنها: أنه يعين من عمالهم من شاء ولا يمنعونه، ورفع أيديهم من الشرف، ويكون البون مقسوماً إلى الجنات وعمران، ومنها: أن يردوا خيل آل دعام ونقائصهم في الفتنة، وأن غربان والحواشد لبني القاسم، وبني عوير لبني الهادي، والجوف بين حدوده للإمام، ثم تزوَّج الإمام بنت الأمير عز الدين، وطابت نفوس الجميع، ثم نهض الإمام من صعده، ومعه الأمير شمس الدين، وكانت الخيل ألف فارس، فقصدوا صنعاء، وفيها الأمير أسد الدين، فعلم أنه لا طاقة له بهم، فارتفع إلى براش فحط الإمام في باب السبحة، والأميرشمس الدين في باب اليمن، فافتتحوا صنعاء، وكان عند الأمير شمس الدين أن أكثر أمور صنعاء تكون إليه، فلم ير الإمام ذلك مصلحة، فضاق صدر الأمير، وظهرت منه الكراهة، وتعمدها الإمام –عليه السلام-، وولاها الأمير الحسن بن محمد القاسمي، وجعل معه القاضي أحمد بن زيدان الصعدي، وولى القضاء أحمد بن سليمان، ثم وصلت اعتراضات من بني الهادي آل يحيى بن يحيى من أجل عقود كانت بينهم وبين الإمام، ويدعون أن تلمص ملكاً لهم فيحبون المحاكمة فيه، فأجابهم الإمام بكتاب فيه طول، قال في آخره: واعلموا أنا ما نلقى الله بظلم أحد من خلقه، وكيف نمتنع من الشرع، ونحن الذين عطفنا الناس إليه، ثم وقع الصلح بينه وبين الملك المظفر على أن للإمام: اليمن الأعلى من الأسلاف، وللسلطان:(2/202)
اليمن الأسفل، وللإمام ثمانون ألفاً محمولة إلى خزائنه، وتسليم حصن حلب، والظفر للإمام، وأنهم جميعاً محاربون لأسد الدين، وأن كوكبان للإمام –عليه السلام- عند الاستيلاء على براش، ثم إن الإمام اشترى براش من الأسد بخمسمائة ألف درهم مهدية –[وزن] كل درهم ثلثا قفلة بقفلة الإسلام- وعشرين ألفاً غير الخلع والخيل على المتوسطين بينهم، ففرق الإمام هذا المال على أهل بلاده من ذمار إلى صعدة ونجران ومغاربها ومشارقها، فجعل على كل بالغ غني أربعة دراهم مهدية، أو خمسة دراهم منصورية -أي من ضربية المنصور بالله-، حتى من أموال الأيتام والأرامل، وحكم بوجوب ذلك عليهم، رعاية للمصلحة العامة، ولم يظهر من أحد من العلماء في ذلك طعن، ثم نهض الإمام إلى صعدة، فدخل بالشريفة دنيا بنت [الأمير] عز الدين محمد بن المنصور، وقد كان عقد [له] بها في الدخلة الأولى، وأقام هنالك أياماً، ثم بلغه أن الأمير شمس الدين وأسد الدين قد جمعا عسكراً جماً يريدان به صعدة، فخرج في لقائهم، فحط محطته في موضع يسمى العجلة عند العمشية لازماً للطريق، ولما علم الخصوم سلكوا طريقاً أخرى، فلم يشعر الإمام إلا وقد دخلوا صعدة، فعاث عسكرهم في صعدة، وقتلوا القاضي يحيى بن عطية بن أبي النجم، والقاضي زيدان بن مقبل، وكشفوا النساء، وانتهبوا بيوت المدينة، وأسروا منها طائفة، وأقاموا فيها مدة، ولما علم الإمام بذلك نهض إلى الظاهر، ثم وجه أخاه سليمان بن يحيى إلى ناحية الجوف، وقصدوا الأمير موسى بن الإمام المنصور في درب ظالم، فأسروه هو وجماعة من السلاطين، والفقيه الشتوي، وكان(2/203)
معانداً للإمام مع الأشراف، وغنموا في الدرب غنائم كثيرة، فلما وصلوا بالأمير موسى إلى الإمام وجه به إلى مدع، وأمر بحفظهم حتى يستخرج بهم أسرى صعدة، ثم إن الأمير شمس الدين وأسد الدين نهضا إلى صنعاء خوفاً عليها من الإمام –عليه السلام-، فجهز أخاه سليمان لغزو من بقي من أعوانهم في صعدة، فلما قرب منهم هربوا إلى بلاد خولان، فتبعهم إلى الصعيد، ووقع بينهم قتال كبير، فأسر الأمير محمد بن سليمان بن المنصور وجماعة معه، ثم رجع الأمير سليمان إلى صعدة، وأمر بخراب دور من أفسد، وحبس من أدركه منهم، فكتب الشيخ عطية النجراني إلى الإمام كتاباً يعترضه فيما فعله صنوه الأمير سليمان، وشنع فيه تشنيعاً بليغاً، فأجاب الإمام –عليه السلام- جواباً فيه طول، ثم إن الأمير شمس الدين، وأسد الدين نهضا من صنعاء بعساكر يريدان قتال الإمام، فسارا إلى جبال عيال يزيد، فحطا هنالك، فأمر الإمام الأمير أحمد بن يحيى بن حمزة، فحط قبالتهم، وأمر [معه] الفقيه حميد المحلي، والفقيه أحمد بن موسى [بن مقبل] الصعدي، والفقيه عيسى بن جابر الصعدي، ولما كان يوم الجمعة ثاني شهر رمضان هجم الأميران جند الإمام، فقاتلوهم حتى انكسروا، ثم إن الأميرين حملا بأنفسهما وجنودهما، فانهزم المجاهدون، وقتل الفقيه حميد [رحمه الله تعالى]، والشيعة الذين معه وأسر الأمير أحمد بن يحيى، ثم إن الأمير شمس الدين نزل إلى الملك المظفر إلى زبيد هو وأهله يستنصرونه على الإمام، فأعانهم بأربعين ألف دينار وكساهم، ثم إن المظفر جدَّ في حرب الإمام –عليه السلام- حتى أنه كتب إلى بغداد(2/204)
وخليفتها يومئذٍ المعتصم يستعينه [على الإمام]، فبعث إليه بحشيشيين أي فدائيين، والفدائيون يبيعون أنفسهم ويخاطرون بها في قتل من يؤمرون بقتله وإن قتلوا بعده، فلما وصلا إلى المظفر أظهر أنه يريد منهما السعي بينه وبين الإمام –عليه السلام- وفي الباطن أمرهما بقتله، ولهما مال يدفعه إلى ورثتهما بعدهما، فتقدما إلى الإمام على هيئة الصليحين، فتلقاهما الإمام بالإنصاف، فدخلا عليه في بعض الأيام لتمام الصلح والوداع، وطلباه الخلوة، فلم يبق عنده إلا الفقيه قاسم بن أحمد الشاكري، والفقيه المعلى بن عبد الله البهلولي، والشيخ عبدالله بن محمد الصعدي، فقال لهما: تكلما بحاجتكما، فتكلم أحدهما بكلام غير مستقيم، ثم قال: إن معي حديثاً سراً فدنا [من] الإمام فاتهمه، فأشار إلى الفقيه قاسم أن يدنو منه، فشاوره الإمام في أذنه اليسرى وعيّنه مع الحشيشي وهو باسط يديه على فخذيه، ثم إن الفقيه أراد الجواب على الإمام، فشاوره في أذنه اليمني، فستر ما بين الإمام والحشيشي، فحصلت له الفرصة فجذب سكيناً كانت في باطن فخذه، وانحط على الإمام [بها]، فلما أحسّ بها الإمام قريباً منه، وثب قائماً، فسقطت عمامته، فوقعت رجله فيها، فسقط على جنبه الأيمن، فوقعت الطعنة في محجمه الأيسر، فدخلت نحواً من ثماني أصابع بعد أن أخذت في العمامة طاقتين، وأراد أن يطعنه الثانية، فوثب الفقيه قاسم [بن أحمد]، فقبض على السكين بيده فقام، وطعنته ترش من خلفه وأمر بقتله، وقد شدَّ الفقيه على يده وسلم الإمام –عليه السلام-، ثم إن الإمام –عليه السلام- وقف مدة فكاتبه [الشيخ](2/205)