والثالثة: انهزموا من الصعيد، وقد جلبهم الإمام عز الدين بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن المؤيد -عليه السلام- على صعدة، ولم يقف منهم أحد البتة، فلما كان شعر هذا الشريف المقدم ذكره متضمناً لذمهم، ومدح أولاد المنصور بالثبات كما هي لهم عادة عكس أولئك المخذول من انتصر بهم أوردته هنا، والشيء بالشيء يذكر، فقال: يخاطب الأمير عز الدين [ابن المنصور -عليه السلام-] :
عاداتك الصبر والخطيُّ مشتجر.... يا خير من قلَّدته أمرها مضرُ
لولا عزائمك اللاتي عُرفت بها.... ما كان للدين عن عاداته وزرُ
لكن حَمَيْتَ ببيض الهند حوزته.... والشاهدان بذاك السمع والبصرُ
أما المديح فلا نأتي بأيسره.... لأن كل مديح فيك مختصرُ
ماذا يقول ذوو الإسهاب في رجل.... آباؤه برسول الله تفتخرُ
أما الزيادة في وصف امرئ نزلت.... في وصفه وعلى آبائه السورُ
تالله ما غاصت الأفكار في طرق.... من غير مدحك إلا غاصت الفكرُ
لكن أردنا نؤدي بعض مفترض.... من التهاني فلا ألوت بك الغيرُ
كل الأنام سليم ما سلمت لهم.... وما بقيت فذنب الدهر مغتفرُ
عليك للمجد أن تبني قواعده.... وما عليك إذا لم يسعد القدرُ
إن النبوة أعلا كل منزلة.... قد شاب رونقها التنغيص والكدرُ
هل كان مثل رسول الله من أحد.... أو كان يبلغ في أوصافه بشرُ
فكان يوم حنين ما علمت به.... من الهزيمة لولا معشر صبرُ
هوِّن عليك وإن نابتك نائبة.... فالجرح مندمل والكسر منجبرُ
والدهر يومان يوم مشرب أسِنٌ.... مرُّ المذاق ويوم مشرب خضرُ
فارفض أحاديث هزاجين لو قصدوا.... إحداث شيء من العلياء ماقدروا
فكم من الناس غالٍ يدَّعي حكماً.... يقول لو كان لي التدبير ما قهروا
وفي الحقيقة لو نابته نائبة.... لم يدر فيها بما يأتي وما يذرُ(2/196)
وهل أتى النقص إلا من زعانفةٍ.... في السلم تسطو وفي الهيجاء تنكسرُ
ضلوا السبيل فباعوا رشد أنفسهم.... في الغيِّ تلك لعمري بيعة غررُ
أما الرسوس فأهل الصبر ليس لهم.... عن مورد الحرب تعريج ولا صدرُ
راضوا الخطوب فلا ملتام مروتهم.... تهشُّ كلا ولا في عودهم خورُ
لولاهم ما نجا ناجٍ بمهجته.... وكان أقصى مدا ناج بها عُصرُ
في ما قط فيه للإنسان هيقعة.... والجو بالنقع داجي الأفق معتكرُ
وما لقحطان لايروي صنيعهم.... يوماً بصنعاء أوما بالهم غدروا
كانت مجازات قحطان ونصرتها.... نهب الأثاث فيا خذلان من نصروا
قد كان حاول عز الدين عزهم.... فاختاروا الذل بالختر الذي ختروا
لما استعاد إلى ملقا ركائبه.... وافى وليس لهم عين ولا أثرُ
لم تنصف العرب في حكم وتلك لهم.... عادات سوء عليها دلت السيرُ
[انتهى. وأنا أقول: هذا الشعر يدل على أن الهرب لخيل الشام خلة متوارثة، وجبلة مستخبثة، وسجية قديمة، وشنشنة ذميمة، فالله المستعان].(2/197)
[أخبار الإمام المهدي لدين الله أحمد بن الحسين بن أبي البركات المعروف بأبي طير -عليه السلام-]
وزلزت عضد المهدي أحمدنا.... بأ حمد ورمته منه بالكبرِ
فخضبت شيبة لابن الحسين دماً.... وعفّرت وجهه الوضاح بالعفرِ
وسامت الشيخ من حوث مهاجرهُ.... بعد الولاء على صاع من الفِطَرِ
وكلفت حسناً تحسين أقبح ما.... جرت به من صروف الدهر والعبرِ
دارت رحا حربهم للدين طاحنة.... فليت أن رحاهم تلك لم تدرِ
ضحوا بأبيض يستسقى الغمام به.... قد بايعوه فكانوا أخسر البشرِ
مالوا إلى أحمد عن أحمد وبغوا.... على الإمام وقالوا: جار في السيرِ(2/198)
المراد بأحمد [الأول] : الإمام المهدي لدين الله أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن عبد الله بن القاسم بن أحمد بن إسماعيل بن أبي البركات بن أحمد بن محمد بن القاسم الرسي، وهو القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عليهم السلام- نسب يخجل النيرات، ويستنزل بتلاوته شآبيب البركات، ويستدفع بحكايته طوارق الحادثات، كان مولده –عليه السلام- في هجرة كومة ببلد شاكر من [بلاد] الظاهر، وأقام فيها حتى بلغ اثنتي عشرة سنة، ثم نقله عمه إلى مدرسة مسلت، وكان فيها عدة من العلماء، فقرأ في أصول الدين حتى تبحر، ثم في أصول الفقه كتباً كثيرة، ثم الفقه، وكتب الحديث، ثم النحو، واللغة، والتفاسير، فلما ظهر فضله، وانتشر ذكره، طالبه العلماء والأمراء والكبراء من أهل زمانه بالقيام، وكان ممن طالبه بذلك الأمير: شمس الدين أحمد بن المنصور، فقوى خاطره الانتقال من ذيبين إلى ثلا لحاجة عرضت له لا لقصد القيام، فتوهم الناس أنه سار للقيام فيها، فصاحبه بشر كثير إلى هنالك، وتلقاه الشيخ منصور بن محمد الضريوة بما يحق له من الإنصاف والتعظيم، فطلبوا منه القيام، فساعدهم، وذلك في شهر صفر سنة ستمائة وستة وأربعين، وكتب دعوته إلى الناس كافة، وأول من صدرت إليه أولاد [الإمام] المنصور بالله، فلم يتلقوها بكل القبول لما كانت من ثلا، وكان غرضهم أن تكون من ظفار، ووصلته العلماء من كل ناحية إلا الشيخ أحمد بن محمد الرصاص ومن تبعه، فإنه وصل إلى ظفار، وجرى بينه وبين الأمير شمس الدين كلام في امتحان الإمام، وتعنته في(2/199)
دقائق العلم، ثم سار الشيخ إلى ثلا بعد أن كان عاهد الأمير [شمس الدين] أن لا يبايع، فلما وصل بسط له الإمام الجناح في الامتحان، فوجده كاملاً، فلم يستطع أن يمتنع من البيعة، فبايع على المنبر، وتكلم في مناقب [الإمام] بما سمعه الخاص والعام، ثم كتب الإمام دعوة إلى الأمير عماد الدين صنو المنصور بالله -عليه السلام-، فأجاب دعوته، وأمره بإقامة البيعة في بلادهم، ثم نهض الإمام من ثلا إلى حصن حلب، وهو يومئذٍ لسلطان اليمن، وقد رتب فيه خلقاً كثيراً من الباطنية والمجبرة أهل بأس شديد، فوقع بينهم قتال شديد، حتى أنه - عليه السلام- باشر القتال بنفسه، ثم بعد ذلك حدث من الأمير أحمد بن يحيى بن حمزة محالفة للمظفر على حرب الإمام، ونزل حجة، وأوقع بالمسلمين بها، وقتل منهم كثيراً، وكشف حريمهم، وأخرب قراهم، وانتهب أموالهم، وأسر من أسر من كبارهم، فاغتم الإمام وهو في ثلا، فصبر حتى إذا صاروا إلى قارن هجمهم [الإمام]، وقتل منهم ثلاثمائة رجل ونيفاً وثمانين، ولزم الأمير عبد الله بن يحيى بن حمزة أسيراً، وغنم الناس منهم غنيمة عظيمة، و إلى ذلك أشار ابن هتيمل حيث يقول:
قرنت بأهل قارن يوم سوء.... أزحت بها الزعيم من الزعامة(2/200)