قالوا: فسار من صعدة إلى أن وازى حوثاً ومعه إخوته أولاد المنصور والأمير وهاس بن أبي وهاس، ومخلص الدين جابر بن مقبل، وكبار بكيل وحاشد، فبات بها ليلتين، وسار أخوه شمس الدين من طريق الفقع بمن معه من صعدة، فحط بنهمان ينتظر وصول صنوه، ثم سار يطوي المراحل حتى وصل الجنات، وفيها أمير الغز اسمه سنقر في خيل، فسار في الليل إلى صنعاء، وسيب كثيراً من ثقله، وبذل مالاً وعطايا لناس من بني صاع على الرفاقة، فأمر شمس الدين بهدم الجنات، وقدم إليه إلى الجنات عمه عماد الدين يحيى بن حمزة في عساكر جمة، فلما تلاحق العسكر سار بهم عز الدين حتى ضرب خيامه برأس نقيل عصر، وحينئذ أقبل الغز من نهج ذروان، وكان كما قال الله تعالى:{وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً}[الأنفال:42] فترك الأمير عز الدين المحطة موضعها، وكانت خيله أربعمائة فارس أكثرها من أهل الشام، ورَجْله تقارب أربعة آلاف، فصفّ الغز دون مدينة صنعاء ميمنة وميسرة وقلباً، وتركوا الرجال بين أيدي الخيل، وهم عسكر عظيم، وعبّى الأمير عز الدين جنوده، فعمه عماد الدين ميسرة، وشمس الدين ميمنة، وأخوه علي بن المنصور [وهو في القلب]، وأهل ظفار ومن انضاف إليهم ساقة وساروا على هذه التعبئة، حتى قربوا من صنعاء، وصفوف الغز مما يلي مسجد الحرة إلى سور المدينة، فتواقف الناس وبعضهم ينتظر من صاحبه الدنو إليه ليقع التمكن من المراد، فبقوا على ذلك إلى أن قرب الليل، وخاف الناس فوات الفريضة، فأجمع الأمير على الرجوع إلى محطتهم(2/191)
، فلما آذن للناس بالانصراف رجعوا من غير تعبئة، وارفضوا في القاع، ودخل بعضهم في بعض، فلما عاين الغز ذلك ساروا على تعبئتهم سيراً حثيثاً حتى دنوا من الناس، فصاح الأمير عز الدين بالرجوع، فلم يجبه أحد، وخف الناس للأمر المقدور فثبت مكانه في إخوته وأصحابه، وكبار [أهل] دولته، ودارت عليهم رحى الحرب، واختلطوا واطعنوا بالرماح، ثم اضطربوا بالسيوف، وعقر من خيل الغز أربع وعشرون فرساً زرقاً بالرماح، ولم يرجع إليهم أحد من العسكر، بل تولى القتال الأمير عز الدين بنفسه، وأخذ شمس الدين والأمير مخلص الدين جابر بن مقبل، فرمي فرسه [بسهم] فمات في موضعه، فجال العدو عليه، وقتل شهيداً، وقتل معه جماعة منهم: الشريف سالم بن علي بن محسن العباسي، والقاضي محمد بن عمر بن علي العمراني، ومسعود بن مقبل الزيخي مولى المنصور، وبلنان التركي مولى قتادة بن إدريس الحسني، ويحيى بن مزيد المالكي الخولاني، وأصيب حصان الأمير عز الدين بسهمين، وأصيبت عينه اليسرى بسهم لم يذهب بصره، وأصيب حصان [الأمير] شمس الدين في رجله بضربة وسهم في رأسه، وبطعنة في ساقه، فحينئذ أجفلت الناس و انكسروا، وسار هذا الحصان لا يقدر على فوق السير البطيء، وهو حصانه المعروف بالطرف، لم يعلم في وقته فرس يشاكله ولا يماثله خلقاً وفعلاً، فلما عقر الحصان تولى الدفاع عن شمس الدين أخوه علي بن المنصور، وابن عمه عبد الله بن الحسن بن حمزة، فوقع فيهما طعن كثير بالرماح، وصوائب بالنشاب، وقع في علي بن المنصور سهم في ظهره فبدا من صدره، وما زال يقاتل عن أخيه حتى وقف حصانه وترجل عنه، وركب(2/192)
رديفاً لرجل من جنده، حتى تعلق بالخيل، ثم ركب فرساً آخر.
قال الراوي: وأبلي أولاد المنصور في ذلك اليوم بلاءً عظيماً، وجرحوا جراحات كثيرة، وهم إبراهيم، والحسن، وموسى، وعبد الله، ويحيى ابنا الحسن بن حمزة، والأمير وهاس، وصنوه جعفر بن أبي وهاس، والشيخ منصور بن محمد، وجماعة من الشرفاء الموسويين، والحمزيين، والعلويين وغيرهم من كبار الجند الهمدانيين والجنبيين.
قال: واستشهد من الرجال أربعون رجلاً، ثم طلع الناس إلى محطتهم فحملوا ما خفَّ مما يعز عليهم، ولم ينتظم للأمير عز الدين اجتماعهم في تلك الليلة، بل مروا حتى توافوا بحصن ثلا، فأقام شهراً ونصفاً، فبدت به الحمى وتعلقت به الأمراض والأوصاب، و في خلال ذلك أذن للناس بالانصراف، ووصل جنده النزاريين والقحطانيين بصلات وزودهم إلى بلادهم، ثم عاد إلى ظفار في شهر رمضان في النصف الأخير منه، من السنة المذكورة أولاً، فأقام به أياماً، ثم نزل إلى حوث، والعلة تزداد عليه قليلاً قليلاً، فأخذ في أحكام وصاياه والتعهد لأموره ظاهراً وباطناً، والدعاء إلى الله والاستغفار، فكان يقول: اللهم، إن كنت قد قبلت عملي فاقبض روحي، وقال في تلك الأيام:
لعمري لئن ضاقت بذنبي فرائصي.... لعفو الذي سوَّا السماوات أوسعُُ
جزعت وأعيتني ذنوب لمثلها.... يراع أخو العلم اللبيب ويفزعُ
وأفزعني أني إلى الله صائر.... وكل امرئ يوماً إلى الله يرجعُ
وكيف اعتذاري يوم ألقى صحيفتي.... مضمنة ما كنت بالأمس أصنعُ
فلا أنا عنها محدث أجنبية.... ولا أنا محبور بها فأشيعُ
حنانيك رب الناس من أن تصيبني.... بذنبي وهل إلا إلى الله يفزعُ(2/193)
وقال في تلك الأيام أيضاً:
هل لعين تأبى الكرى من هجوع.... أو لهمٍّ ملازم من نزوعِ
ولقلب للدهر فيه صدوع.... وكِلام يدمين كل صدوعِ
ولجسمٍ عليه من وهج الحُمَّـ.... ـى سوارٍ تبريه بري الخليعِ
وضجيعي من الغرام خفي.... وخفي الغرام سر ضجيعي
وليالٍ عَرَّقْنَ جسمي فغادر.... ن سجودي مطابقاً لركوعي
ونفين السهاد عني فأمسـ.... ـيت وبالنيرات أرعى ربوعي
من لعين أليمة في رضى اللـ.... ـَّه أصيبت فزايلت ممنوعِ
ستر الله ذو الجلال عليها.... أي ستر يغطي وأي منيعِ
إن أكن واثقاً بها في رضى اللـ.... ـه فمن لي بقلب سوء جزوعِ
هذه من عطية الله أعطا.... ني وذو الفضل ذو عطاء وسيعِ(2/194)
قال مصنِّف سيرته: فلما اشتدت علته، ويأس من نفسه، كتب إلى عمه ذي الشرفين يعلمه بحاله، ويأمره بالاحتراز إن حدث عليه حادث، وكتب إلى أخيه شمس الدين إلى نجران [يأمره] بمثل ذلك، وأن لا يقف في نجران عند ورود كتابه، وهي ليلة توفي، ومات تلك الليلة، وهي [ليلة] سابع شهر ذي الحجة من سنة ستمائة وثلاثة وعشرين، وحمل إلى ظفار بليلته، وكتم أمره شهراً حتى اجتمع أصحابه بأخيه إلى ظفار إلا صنوه شمس الدين أحمد، فأقام بصعدة مدة شهر أو أكثر لأمراض كانت معه من شهر شوال، فلم تكن تمكنه الحركة إلى الجهة، فلما مات عز الدين دفن بالهجرة المنصورية، بمشهد تحت مشهد أبيه –عليه السلام-، ولا عقب لعز الدين غير علي ودنيا، ولا عقب لعلي، وكانت البيعة له بالحسبة بكنن أول شهر صفر من سنة أربع عشرة،ومدة ولايته عشر سنين إلا شهراً، وكانت جملة عمره اثنتين وثلاثين سنة، ومولده ببراقش، وقضاته قضاة أبيه، ومما قيل في هذه الوقعة من الأشعار وهي كثيرة إلا أني اخترت منها شعر الشريف حسن بن جعفر القاسمي، لما تضمن من ذكر خيل القبلة وفرارهم، فأذكرني ذلك كثرة ما علمته من فرارهم فيما مضى، وما شاهدته في مدة عمري، فإنهم قد فروا في مدتي ثلاث فرات:
الأولة: كانوا جنداً في صعدة مع حي الشريفة فاطمة بنت الحسن بن أمير المؤمنين، فلما قرب جند صنعاء في دولة المنصور [الناصر] بن محمد هربوا وفروا.
الفرَّة الثانية: في دولة الناصر أيضاً.(2/195)