الأمير علي بن الحسين ومعلوم أن في (التحرير) بفوائده وفصوله ما يزيد على عشرين ألف مسألة، ولم يكن فقه العترة قبل الهادي والقاسم إلا مجموع الفقه في ورقتين أو ثلاث، وهو إنما تحصل أعني الفقه برد الفروع إلى الأصول، مع طرف من الآثار، وزبد من الأخبار، ولي في العربية تصنيف كافٍ، وقد قيل: إن الإمام إذا كان عربي اللسان لم يحتج إلى علم النحو، وقرأت (ضياء الحلوم) و(أصول الأحكام) وفيه ما يزيد على أربعة آلاف خبر، وليس [يحتاج] من الأخبار إلا ما يختص بالشرع، وقد قيل: إن أبا بكر لم يكن يروي من الأخبار إلا أربعة وعشرين خبراً، ولعمر مسائل فيها خطأ كمسألة العدة، ومسألة الحامل، ومسألة دية الأصابع، ومسألة المطلقة المبتوتة، ومسألة المهور و [مسألة] الفروع، أكثرها يستفاد بالقياس والاجتهاد، والنبي ً يقول: ((اختلاف أمتي رحمة)) وكل مجتهد مصيب، وقال علي -عليه السلام-: (إن اجتهدت وأصبت فلك عشرة أجور، وإن أخطأت فلك خمسة)، وفي بعض الأخبار: [فلك] أجران وأجر، وأبو بكر قضى في الجد بسبعين قضية، وابن عباس نفى العول، وقال: من شاء باهلته، واختلاف الصحابة في مسألة الجد، ومسألة الحرام ظاهر، وهو في بطون الصحائف مأثور، ومع ذلك فكان البعض يصوب الآخر، ولعلي – عليه السلام- من القضايا ما لو أجاب به بعض أهل العصر لعد جاهلاً، كقوله: العبد لا يملك من الطلاق إلا اثنتين، ولا يتزوج إلا اثنتين، وقوله في أمة تتابعها ثلاثة في طهر واحد: يقرع بينهم، ويغرم القارع، لكل واحد من الآخرين ثلث القيمة، وقضى في بغل شهد أربعة أنه لفلان، وثلاثة أنه لفلان(2/181)


بأن يقسم بينهما أسباعاً، وفي الخنثى بالأضلاع، وبيع أمهات الأولاد، وحكي عنه الرجوع في ذلك، وأجاز زيد: نكاح الكتابيات، والمؤيد بالله يقول في مسائل كثيرة: وأخشى أن قول يحيى –عليه السلام- خارق للإجماع، وأما الفقهاء فاختلافاتهم عجيبة حتى أن من العلماء من قال: لو أفتى مفتٍ بغير علم ما أخطأ قول مجتهد.
قال: وصنَّفت في الفرائض كتاب (البلغة) وأما التفسير فهو من هذه العلوم وأما القصص فقد قرأت فيها كتباً من جملتها كتاب (العرائس في المجالس) وطالعت (تفسير الحاكم) وهو لا يحتاج [فيه] إلا إلى مجرد المطالعة بعد فهم هذه الفنون، وقد قال المنصور: مع الداعي علوم لا يحتاج إليها الإمام، وقال: ما نعلم في دار الإسلام اعلم من فلان، وأما السخاء فقد قال بعض العلماء: إذا كان الإمام تقياً حمله ذلك على وضع الحقوق [في] مواضعها، وشجاعته شهد الأمير علي بن الحسين، ولم يثبت هذا إلا في موضعه.
قلت: [و] هذا الكلام الأخير يدل على أن المجوَِّب غير الداعي، ومن هذه الرسالة: وأما الجاحظ فقوله ليس بحجة، وفي الناس من أخرجه عن دائرة الإسلام فضلاً عن غير ذلك.(2/182)


قال: وأما رجوعنا عن قول إلى خلافه، فليس فيه نقص، والانتقال عن اجتهاد إلى اجتهاد آخر جائز، بل واجب عند وضوح الحجة، ومن العلماء من له قولان في مسألة، ومنهم من له ستة أقوال، علي -عليه السلام- رجع عن بعض قضاياه، والهادي ربما قال في (الفنون) بخلاف قوله في (الأحكام)، وفي (الأحكام) بخلاف قوله في (المنتخب)، وأما قولك: ليس للإمام قوة على تدبير الحروب، وهي أعظم الخصال، ولهذا قَّدم النبي ً عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، والوليد بن عقبة على جلة من المسلمين في الغزوات و[في] الحروب.
فالجواب: أنه إذا حصل برهان بقوه التدبير لزم الرجوع إليه، والذي لا يجوز عليه البدي هو الله تعالى، وأما الخلق فيخفى عنهم من الصلاح ما كان ظاهراً، ويظهر لهم ما كان خافياً، وقد ظهر لنا ما خفى عنك:
ونحن بنو بنت النبي محمد.... ونحن بأطراف الأسنة أذرب
وأما قولك: ليس من الورع نكث بيعة الإمام السابق، وقد علم أهل جهاتكم أنه بايع في حياة [الإمام] المنصور بالله للرضى من آل محمد، وأوهم أن الأمر له، ولما عوتب جحد المبايعة، ثم أقرَّ لتاج الدين وسواه بالبيعة.(2/183)


والجواب: إن النكث إنما يكون بالمنابذة والمحاربة والتبري، ولم يفعل شيئاً من ذلك، بل توقف وطلب البحث، وقد اجتهد كثير من العلماء [وغيرهم] في أن يعلمهم بمجرد الأسئلة التي سئل عنها المنصور بالله ما هي؟ فامتنع تحرجاً أن ينسب إلى الطعن، وأن تقع الشبهة في قلب [من] لا يمكنه حلها، أو يقع تشنيع من الفرق الضالة، وغيرهم من بعض العترة يأخذون السؤال، ويتركون الجواب، كما فعله أهل عصر هاروت وماروت: نزلا يعلمان الناس السحر وبطلانه فيعلموه لا بطلانه، والذي نعلم أن رحى الحرب [كانت] دائرة بين أصحاب ص بالله في مسور، وبين السلاطين بني عبد الحميد، فلم نكثر سوادهم، ولا نكثنا عهداً، ولا جندنا جنداً، مع التمكن من ذلك، وبذل ما يحتاج إليه من الأموال، فما منعنا من المحاربة إلا الألباب الحاضرة، وأما وقوع البيعة، فالمعلوم أنَّا بايعنا للقائم من آل محمد من غير تعيين، وليس في هذا تناقض؛ لأنه سئل هل بايع لنفسه؟
فقال: لا، وأخبر [آخر] : أنه بايع للقائم من آل محمد، فلم يرجع الكلامان إلى معنى واحد، وقد كان في المدة الماضية تأتي من ص بالله أخبار متناقضة، وهي جنس ما حكاه السائل من أخبار علمنا كذبها، وتحققنا محالها، وأما قوله: لا يجوز دخول مسور وجهاته.(2/184)


فالجواب: أنها ليست بدار حرب على قول كثير من العلماء والأئمة؛ لأن منهم من يشترط غلبة الكفر، وفيهم من يشترط المتاخمة لدار الحرب، ولأن اليد والقهر إنما هما لأولاد السلطان محمد بن حسين، ولم يحك لنا أن فيهم باطنياً، ولا مطرفياً، ولا جبرياً، فقد صاهر السلطان صعصعة الأمير عماد الدين وهمَّ بها المنصور [بالله] وأما السلطان سليمان فقد وصل إلى المنصور إلى قلحاح وغيره، وتاب على يديه من الظلم؛ ولأنه يجوز دخول دار الحرب لقضاء الحوائج ذكره أئمتنا، وقد روي أن المأمون لما استقر له الأمر لم يبق طالبي إلا وفد عليه حتى النساء والولدان، وكان عقيل بن أبي طالب يفد على معاوية، وكذلك ابن عباس، وعبد الله بن جعفر، وأكابر من فضلاء الصحابة.
ومن هذه الرسالة: وأما قولك: إنه يسب الإمام بشهادة القاضي علي بن أبي السعود، وهو من مقبولي الشهادة.(2/185)

117 / 205
ع
En
A+
A-