ثم دخل صنعاء المرة الثانية في صفر سنة إحدى عشر وستمائة، فأقام بها مدة، ثم تقدم إلى ذمار، فانحاز من بها من العجوم إلى ذي خولان، فصمد لهم الإمام –عليه السلام- بنفسه حتى أظفره الله عليهم، فاستولى على الخيل والسلاح، وأعتق الرقاب، ولم يزل –عليه السلام- على ذلك حتى وصلت جنود العجم من المصرية إلى اليمن، فلما قربوا من صنعاء انتقل منها إلى كوكبان لأحد عشرة ليلة خلت من ربيع سنة اثنتي عشرة وستمائة، وهم مروا ببيت أنعم، فحَّطوا عليه، فأخذوه، ونهضوا إلى بلاد حمير، فحطوا على المصنعة وعزان في رمضان من السنة المذكورة، وأقام لمقاتلتهم في اللطية بجبل الضلع ثلاثة أشهر ونصفاً، حتى وقع الصلح يوم الأربعاء غرة شهر المحرم سنة ثلاث عشرة وستمائة، وأقامت محطة العجم عليه مائة ليلة وسبع ليال، ثم انتقل إلى ظفار، فأقام فيه مدة حتى دنا انقضاء الصلح بينه وبين العجم، وانتقل إلى كوكبان لأربع ليال بقين من ذي الحجة من السنة المذكورة، و[قد] كان المرض ابتدأه في البون، ثم طلع كوكبان والمرض يزداد، وكان من التجلد في حال مرضه والصبر عليه بالمحل العظيم، فكان في حال النزع الشديد، وهو محتب بثوبه، حتى لقد فاضت نفسه –عليه السلام- وهو كذلك، واختار الله تعالى له الانتقال إلى دار كرامته، ومستقر نعمته يوم الخميس لاثنى عشر يوماً من محرم سنة أربع عشرة وستمائة، [ثم] نقل إلى بكر، فأقام فيه مدة، ثم نقل بعد ذلك إلى ظفار، فمشهده هناك مشهور مزور، كثير الصدقات والنذور، ومدة عمره اثنتان وخمسون سنة وثمانية شهور واثنتان وعشرون ليلة، ومدة خلافته تسع عشرة(2/161)
سنة وتسعة أشهر وعشرون يوماً، وأولاده –عليه السلام-: محمد، وأحمد، وعلي، وحمزة –درج صغيراً-، و إبراهيم، وسليمان، والحسن، وموسى، ويحيى، وإدريس- درج صغيراً- والقاسم، وفضل –درج صغيراً-، وجعفر توفي ولا عقب له، وعيسى توفي ولا عقب له، وداود، وحسين –درج صغيراً-، هذا كلام الفقيه حميد –رحمه الله [تعالى] - في (الحدائق)، ومفهومه أن أكثر أولاده لهم عقب، ولعل ذلك في زمن الفقيه حميد –رحمه الله [تعالى] - وأما في وقتنا وهو سنة تسعمائة [سنة]، فأظهر من يعلم له ذرية من أولاد المنصور هو ولده شمس الدين أحمد، وولده أعني ولد المنصور، وهو قاسم له ذرية وهم آل أبي سلطان، ومسكنهم خيوان، وانتقل منهم في عصري إلى صعدة: صلاح بن عز الدين، وله أولاد موجودون في عصرنا، فهم كثير مشهورون بالشجاعة، وملكوا صعدة في آخر سنة ستة وستين وثماني مائة سنة، وكذلك نجران والجوف، والظاهر والبون، وكانت هذه البلاد في أيدي آبائهم، فغلبهم عليها حي الإمام المهدي علي بن محمد هو وذريته قدر مائة سنة، ثم استعادها الأمير الحسين بن علي بن القاسم الحمزي، وولاها ولده الهادي، فلما قتل الهادي في الجوف، وليها أخوه عز الدين محمد بن الحسين من سنة ثلاث وسبعين، وكتبت هذه الألفاظ، وهي بيده في سنة تسعمائة.(2/162)
[ذكر الأمير عماد الدين يحيى بن حمزة بن سليمان ]
وأما قول السيد صارم الدين: وصنوه فارس الهيجاء في بكر… فهو يعني به الأمير الكبير عماد الدين ذا الشرفين أبا المظفر يحيى بن حمزة بن سليمان، فإن المنصور ولاَّه ما يلي: ظاهر بني صريم، ثم إلى الظفير وما يتصل به من جهة بلاد حمير ونواحيها، إلى بكر، إلى مساقط حراز، وبقيت هذه البلاد في يده إلى أن توفي المنصور [بالله] –عليه السلام-، وكان له –عليه السلام- عمال وقضاة، فمن عماله: الأمير يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى ولاَّه شامي بلاد خولان، وبني جماعة، وبني بحر، والأهنوم، وولىَّ أخاه الكبير بدر الدين: محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى نجران، وولىَّ الأمير علي بن المحسن صعدة [وأعمالها] هذا في ابتداء ولايتهم، ثم ولىَّ بعد ذلك صعدة وأعمالها ونجران وما يتصل بذلك الأمير مجد الدين حتى استشهد، ووليها أخوه تاج الدين أحمد حتى توفي المنصور–عليه السلام-، وولى الظاهر آخراً الشيخ أمين الدين دحروج بن مقبل وولى عيان وما يليه إلى نواحي الجهات الغربية من بلاد حجور وقحطان الأمير الكبير صفي الدين: محمد بن إبراهيم وتوفي وهي في يده، وولى الأمير علم الدين سليمان بن موسى الحمزي الجوف وأعماله، بقي في يده حتى توفي الإمام –عليه السلام-، وقد تقدمت الإشارة إلى ما وليه أخو [المنصور] يحيى بن حمزة، وولى القاضي ركن الدين يحيى بن القاضي جعفر حقل وحقالية وما يليهما من بلاد جنب ونواحيها، وولاَّه أيضاً القضاء، و[كان] القاضي يحيى هذا غزير الفهم، كثير العلم، بالغاً درجة الاجتهاد، وولى(2/163)
بلاد مذحج الشيخ عزان بن سعيد، والشيخ مفضل بن أبي رازح -رحمهما الله تعالى-، وكانا من أهل العلم، وممن ولي له الفقيه ركن الدين سليمان بن ناصر وغيره من أهل العلم، وقبضت ولاته الأموال في نواحي الحجاز، وكانت تصل موفرة على أيدي ولاته، واستمر ذلك في نواحي جيلان وديلمان على وفق الأوامر الإمامية، على يدي داعيه محمد بن أسعد المرادي ومحمد بن قاسم بن نصير، وولى القضاء بصعدة وأعمالها القاضي محمد بن عبد الله بن أبي النجم وولده عبد الله بعد أبيه، وفي بلاد وادعة القاضي عبدالله بن معرف والقاضي الفاضل عمرو بن عبد الله العنسي في حوث وأعمالها، وكان في نواحي الحجاز السيد يوسف بن علي الحسني الشهيد بعناية صاحب بغداد الملقب بالناصر أحمد، وهو الذي كان معارضاً للمنصور من العباسيين، ولما مات المنصور [بالله] -عليه السلام- رثي بمراثي كثيرة، فمن مختارها قول ولده عز الدين الناصر لدين الله محمد، وهي:
بفي الشامتين الترب إن يك نالني.... مصاب أبي أو هدَّ من عظمه أزري
على حين أعيا المقرَبات فراقه.... وسنت له أنياب ذي لبد حسرِ
فإن يك نسوان بكينا فقد بكت.... عليه الثريا في كواكبها الزهرِ
وإن شمت الأعداء يوماً فإنني.... على حدثان الدهر كالكوكب الدري
وما مات من أبقى لمن كان بعده.... سجالين من جود ومن نائل غمرِ
أما إنه لولا احتسابي مصابه.... على كبدي كادت تفيض على النحرِ
وهي من المراثي الطنانات، [الطيبات] ولظهورها حذفت أكثرها.
تنبيه:
مما يشبه قول السيد صارم الدين: وكان للمال في كفيه أجنحة.. [البيت] : قول بعضهم:(2/164)
قالت ظريفة ما تبقي دراهمنا.... وما بنا صُرة منها ولا خِرَقُ
لكن إذا اجتمعت يوماً دراهمنا.... ظلت إلى طرق المعروف تستبقُ
ما يسكن الدرهم المنقوش صرتنا.... لكن يمر عليها وهو منطلقُ
[وقول أبي الطيب] :
وكلما لقي الدينار صاحبه.... في ملكه افترقا من قبل يصطحبا
مال كأن غراب البين يرقبه.... فكلما قيل هذا محتد نعبا
وقول مسلم بن الوليد صريع الغواني:
وما تدنس منها كف منتقد.... يأبي الندور فتفنيها صنائعه
وقال آخر:
لا يعرف المال إلا عند ناقله.... ويوم يجمعه للنهب والبدد
وأحسن من هذا قول سعيد بن المسيب : لا خير فيمن لا يكتسب المال ليكف به وجهه، ويؤدي به أمانته، أو يصون به عرضه، أو يصل به رحمه وقد أحسن ابن الجهم حيث يقول:
وما تُجمَعُ الأموال إلا لبذلها.... كما لا يساق الهدي إلا إلى النحر
وقريب منه قول بعضهم:
المال ما صان عرضاً أو بنى شرفاً.... أوجرَّ أجراً وإلا بئس بالمال
وقول المتنبي:
لمن تجمع الدنيا إذا لم ترد بها.... سرور محب أوإساءة مجرم
وهنا يقع العود إلى شرح منظومة السيد الأمجد، والعود أحمد لأن فضائل المنصور أظهر من أن يوقف لها على حد، أو يأتي عليها حصر أو عد.(2/165)