وكذلك له يوم هران مقام محمود، وجهاد مشهور [مشهود]، وأما كراماته فهي كثيرة لا تحصى، وهل يمكن مخلوق تعديد الحصى، فمن أعجبها، وهي رواية مشهورة أن رجلاً من المطرفية أتى ناحية يطلب شيئاً من الزكاة، فأخبروه بتسليمها إلى الإمام -عليه السلام- فأطلق لسانه بالسبِّ [له]، ثم انصرف إلى جانب القرية، فسلط الله عليه كلبة لم يجر لها عادة بمضرة أحد، فوثبت على لسانه، فاستخرجتها، وضربتها بأنيابها، فأقام مدة كذلك حتى نفر عنه الناس، ولم يعتبر، بل بقي على عداوته، فأمر الإمام -عليه السلام- بضرب عنقه، وفي ذلك يقول حسن بن عزوي العصيفرى من قصيدة:
أسمع أمير المؤمنين قضية.... أضحى بفضلك ذكرها مشهورا
أنبئت بالرأسين كلباً مسلماً.... سميته لوداده قطميرا
سمع الذي أطرى عليك بسبِّه.... فجرى فعضَّ لسانه تحذيرا
هاتيك معجزة غدا لك ذكرها.... تحكى بكل صحيفة مسطورا
ومن ذلك ما حصل في أيامه الخير والبركة من ظهور معادن الحديد بجبال بني جماعة من أعمال صعدة وبلاد خولان وكان [قد بلغ] في ولاية الغز نصف رطل بدينار، وصار في دولته رخص إلى أن بلغ خمسة عشر رطلاً بهذا الدينار، بعد أن منع الغز من يشتريه من عدن، إلا من تحت أيديهم فوسَّع الله على خلقه ببركة المنصور [بالله] -عليه السلام-.(2/156)
ومن ذلك أن ورد سار لما تقدم إلى ناحية حوث، وأخرب دار الإمام وعاد صنعاء، فما تم له أسبوع حتى أنزل الله سيلاًلم يعهد مثله، وقد كان بنى في صنعاء قصراً شامخاً، وتأنَّق فيه، [وتعمق] فهدمه ذلك السيل، واستلب كثيراً من أمواله ونفائسه، ونجى [بنفسه] بعد أن أشفى على الهلاك، وتعفت آثار القصر، وهذه قصة مشهورة، إلى غيرها من كراماته -عليه السلام-، وقد ذكرت في الملاحم، ورويت له منامات صالحة تدل على فضله، يعجز هذا المختصر عن ذكر أكثرها وإنما أوردت هنا ما أوردته تبركاً بذكره -عليه السلام-.(2/157)
وأما دعوته-عليه السلام- فإنه تقدم من الجوف إلى الحقل في ذي القعدة [في] سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، وسار إلى هجرة دار معين من أعمال صعدة، وأقام بها أربعة أشهر إلا قليلاً، واجتمع في هذه المدة إليه [من] العلماء من كل جهة، فوجدوه بحراً زاخراً، وعلماً بالمناقب مستأثراً، ولما كان يوم الجمعة الثالث عشر من ربيع الأول سنة أربع وتسعين وخمسمائة، تقدَّم هو ومن معه إلى المسجد الجامع، فبايعه الناس، وكان أولهم الأميران الكبيران الداعيان إلى الله سبحانه شيخا آل الرسول الآتي ذكرهما، ثم بعدهما الأكابر من فضلاء العترة، ثم سائر العلماء من شيعتهم، ثم استقر في ناحية صعدة -حرسها الله تعالى- بالمشاهد المقدسة، وفرق الدعاة والولاة في النواحي والأقطار، وكان للأمير شمس الدين يحيى بن أحمد في ذلك العناية الأكيدة، والصبر على تحمل مشقة السفر على ضعفه وكبره، حتى روي أنه شوهد وقد ورَّم قدماه، وكثر تعبه ونصبه في بلاد عذر والأهنوم، ووصلت دعوته تهامة ومخلاف بني سليم، فأطاعه الكل، وكذلك أطاعته المطرفية وبايعوه، وناصحوه، ثم نكثوا بيعته بعد ذلك، ثم طلع حصن كوكبان، فأقام به مدة، وفي خلال ذلك بايعه من أمراء العجم عدة قدر مأتي فارس، ثم تقدم إلى صنعاء واثقاً بالله متوكلاً عليه، فلما وصلها وفيها العجم إلى قدر سبعمائة فارس، فتح له أهل المدينة الباب، فدخلها في سبعة أفراس لا غير، وهم إخوته ومن اختص به، وتأخر بقية عسكره خارج المدينة، فدخل الإمام مسجد الجامع، واجتمع العجم، وأحاطوا بالمسجد إحاطة الهالة بالقمر، فوقف [–عليه السلام-] فيه حتى حضر(2/158)
وقت صلاة المغرب، وأذَّن المؤذن بأذان أهل البيت –عليهم السلام- فقضى صلاته، ووقف ينتظر الفرج من الله سبحانه، فأمر أخاه أن يشرف على العسكر من فوق السطح، فلما أشرف عليهم آذوه وسبّوه، ثم إن الإمام –عليه السلام- أشرف من ذلك الموضع بعينه، فما تكلم أحد منهم إليه بكلمة واحدة مع مشاهدتهم إياه لهيبته، فانتهى الحال إلى أن أهل صنعاء صوَّبوا خروجه من المسجد، فألبسوه شيئاً من ثيابهم، ثم خرجوا به على أنه واحد منهم، وهم يسيرون بين العجم، فسلمه الله تعالى من كيدهم، ثم أقام في بعض البيوت جانباً من الليل، ثم خرج وقصد بعض أبواب المدينة، فجاء وقد اشتدت الحراس في كل ناحية، فعاد هو ومن معه إلى موضعهم واشتوروا، وخاف أهل صنعاء عليه لشدة محبتهم له، فقال بعضهم: يقف في موضع عينوه لا يكاد يصله أحد، فلم يسترجح الإمام ذلك، حتى اتفق الرأي أن يقف في بيت [واحد] غير معروف، واعتنى أعيان أهل المدينة من الزيدية في تفسيد عسكر العجم، فأفسدوا من الرجال مقدار ثلاثة آلاف راجل، فأصبح الصباح، وقد انتظم لهم ما أرادوا، وفتحت أبواب المدينة، فدخل عسكر الإمام –عليه السلام-، فلما رأى ذلك أهل داخل أقبل جند العجم الذي كانوا فيها إلى بين يديه فبايعوه، وإن من كبارهم لمن ترتعد يده عند البيعة رعباً وخوفاً قذفه الله في قلوبهم، ثم أذن لهم بالانصراف، فنزلوا اليمن، فاستقر الإمام –عليه السلام- في المدينة، ثم نهض يريد ذمار ففتحها [–عليه السلام-] في ربيع سنة خمس وتسعين [وخمسمائة] بعد فتح صنعاء بأربعة شهور، فيقال: إن الخبر بلغ صنعاء بفتح ذمار بيومه، وكذلك(2/159)
ذكروا أن فتح صنعاء اشتهر بمنى يوم العيد، ولم يزل آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، وانتظمت له الأمور في الجوف، وصعدة وأعمالها، ونجران ونواحيه، والجهات الغربية، ونفذت دعوته إلى الحجاز، وأقيمت الجمع في ينبع وخيبر، ثم عمر حصن ظفار في شوال سنة ستمائة، فكان سبباً لانتظام أحواله، وسداد أموره، ووجه دعاته إلى نواحي جيلان، وديلمان، فبايعت له الزيدية هناك، وخطب له في مساجدها، وكتب دعوته إلى ملك خوارزم علاء الدين [بن] شاه على يدي العالم مجد الدين يحيى بن إسماعيل، وكان من فقهاء الأمة، فلما وصلت الدعوة إلى السلطان -مقدم الذكر- قرأها، وهو من المحققين في العدل والتوحيد هو وأهل بلده، فوهب السلطان للسيد عند ذلك مالاً جليلاً ووردت إلى الإمام كتب الظافر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين( ) من حلب، سنة إحدى وستمائة، والواصل بها رجل من ولد النفس الزكية، فوصل [إلى] اليمن، فعاقه سلطان العجم عن الإمام، فأجابه -عليه السلام- بالشعر الذي أوله:
أتهجر معتمداً دارها… حتى قال [في آخرها] :
إلى حلب حيث صيد الملو.... ك تحبو وتكرم زوارها
سلالة من شاد دين الإله.... وطهر بالسيف أوزارها
فرحمة ربي على وجهه.... عشايا العصور وأبكارها(2/160)