[أخبار الإمام عبد الله بن حمزة -عليه السلام-]
وفي ابن حمزة عبد الله حاز منا.... وخير داعٍ دعا منا ومفتخرِ
جاءت بمعضلة نكدا رائعة.... وصاولت من غدا بالمكرمات حري
وقادت العجم من أقصى ممالكها.... إليه تركض خيل البغي والبطرِ
فحاصرت كوكبانا وهو ساكنه.... وصنوه فارس الهيجاء في بكرِ
حتى قضى نحبه والسيف منصلت.... في كفه ومضى في معشر صُبُرِ
وكان للمال في كفيه أجنحة.... مهما يقع منه شيء فيهما يطرِ
هو: أمير المؤمنين أبو محمد عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة بن علي بن حمزة القائم بأمر الله، بن الإمام النفس الزكية أبي هاشم الحسن بن عبد الرحمن بن يحيى بن عبد الله بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -عليهم السلام-، نسب كأن عليه من شمس الضحى رداء، ومن فلق الصباح برودا.
وأما أمه -عليه السلام- فهي الشريفة الفاضلة زينب بنت إبراهيم بن سليمان، من ولد الإمام الخارج بتاهرت من أرض المغرب، وهو من ولد الإمام يحيى بن عبد الله -عليه السلام-.
كان مولد الإمام المنصور بعيشان من ظاهر همدان، في شهر ربيع الآخر لإحدى وعشرين ليلة خلت منه سنة إحدى وستين وخمسمائة.
وروي أنه عند ولادته وقد ولد ليلاً ازداد ضوء المصباح، وعلا علواً يجاوز المعتاد حتى بلغ دوين السقف.(2/151)


وكان أبوه قد رأى أنه قد ظهر منه نوراً ملأ الأرض كلها، فعبره على جدة له شريفة فاضلة، فقالت: أكتمه فقد قيل إنه لابد أن يظهر منك، أو من أبيك المنصور، أو من يدل عليه، ثم عبر رؤياه على رجل وهو يتعحب منها، فلما استكملها، فقال : أبشر يا حمزة بإمام من ذريتك، فصدق الله منامه، وكان والده حمزة أتاه قوم من بني صريم يطلبون منه القيام، والمدافعة عنهم، [من] علي بن حاتم بن أحمد لما ملك أرضهم، فقال: لا فرج لكم على يدي، وإنما فرجكم على يدي هذا الصبي وهو بين يديه ابن عشر سنين أو دونها.
وكان حمزة من فضلاء أهل عصره وعيونهم، له معرفة بأنواع العلم.
وكان قد أقام مع القاضي جعفر بن أحمد -رحمه الله تعالى-، وكان يروى عن القاضي جعفر أنه يصلح للإمامة، ويقول: لو دعا لأجبناه، وكان من أهل السخاء الفائض، فمن ذلك أنه لقيه ضيف، ولم يكن معه شيء، فعمد إلى رداءه فشقه، واشترى له طعاماً، وفي ذلك يقول المنصور [بالله] -عليه السلام- :
وإن أبي أوصى بنيه بخطه.... ولست بناسٍ للوصية من أبي
وباع تراثاً من أبيه لضيفه.... وشق فضول البرد غير مكذب
وقالوا في صفة المنصور [بالله] -عليه السلام-: إنه كان طويل القامة، تام الخلق، دري اللون، حديد البصر حدة مفرطة، [أبلج]، كث اللحية؛ كان شيبها لقضيب فضة، مات وقد غلب الشيب على عارضيه خاصة.
[حتى] قال له بعضهم: يخضب عارضيه، فقال بديهاً:(2/152)


قالوا اخضب الشيب إن الشيب منقصة.... في أعين الراشقيات الرغاديد
فقلت ذاك كما قلتم وهيبته.... نقيض قولكم في أعين الصيد
نحن الذين ضربنا الناس عن عرض.... على البياض فهل نرضى بتسويد
وكان فيه من الفطنة في صغره ما تحير منه العقول، فإنه ختم القرآن صغيراً، وأخذ يتأسف على ضياع عمره، وأطنب في ذلك، فأخبر والده بذلك، فدعاه، وقال له: يا بني، إنه لم يمض لك من المدة إلا القدر الذي يمكنك أن تصل فيه إلى ما قد وصلت، وأنت مستقبل، فشمر في ذلك، وانتقل إلى الدراسة وأنواع العلم، وبدأ بعلم الأدب، فبرز فيه تبريز البلغاء، وكان يحفظ من شواهد اللغة مالا يحفظ أحد من أهل عصره.
-قال عمران بن الحسن بن الناصر : إن بعض من له حظ وافر في حفظ الأشعار للقدماء والمحدثين، قال: أنا أحفظ قدر مائة ألف بيت، وفلان يحفظ مثلها، ونحن لا نعد حفظنا إلى [جنب] حفظ الإمام شيئاً، وكان عارفاً بأيام العرب على ضرب من التفصيل، ثم ارتحل للقراءة على الشيخ حسام الدين الحسن بن محمد الرصاص، وكان عالم الزيدية في عصره، وإليه انتهت رئاسة أصحاب القاضي جعفر، فقرأ على الرصاص الأصولين حتى فاق الأقران، فكان يكتب في لوح معشراً في أصول الدين، ومعشراً في أصول الفقه، فيقرأ هذه ثلاثة أشراف وحفظها وهذه كذلك، وصنَّف في أصول الدين قبل بلوغ عشرين سنة من مولده، فمما صنفه في أيام اشتغاله على شيخه المذكور (جواب الرسالة الطوافة إلى العلماء كافة)، وذلك مشهور، وله كتب في هذا الفن، ورسائل كثيرة، وله في الفقه (الاختيارات المنصورية)، وكتاب (الفتاوي) وكان يقول الشيخ أحمد بن الحسن الرصاص : أخشى أن تكون إمامة الإمام -عليه السلام- صارفة للناس عن إمامة من بعده.(2/153)


قال الفقيه حميد: قلت له: ولم ذلك؟ فقال: لأن الناس يطلبون من غيره من العلم ما عهد من الإمام، وربما لا يتفق ذلك، ولما صدرت تصانيفه إلى الجيل و الديلم سنة أربع وستمائة، وأطل عليها السادة من أهل البيت وفقهاء الزيدية هناك تزاحموا إلى بيعته تزاحم الإبل العطاش عند الحياض، وقالوا: هو اعلم من الناصر -عليه السلام-، مع أنهم في الجيل خاصة لا يكادون يعدلون بالناصر أحداً.
قال الفقيه حميد في (الحدائق): ومن شاهد تصانيفه علم أن له المرتبة العظمى، وذلك أنه كان لا يصده كثرة الناس حوله من التصانيف، قال: ولقد شهدته في مجلس الصباح، وهو غاص بمن فيه يكتب في تفسير القرآن الكريم كتابة مستمرة، وهو يُسأل في أثناء ذلك عن أمور الدين والدنيا، فيجيب عنها، وإن قلمه لينحدر تحدراً سريعاً.
قال: ورأيت بخط من يوثق به أنه أجاب في بعض تصانيفه بيده من أول النهار إلى عند العصر إلى موضع سماه من التصنيف، فعددت ذلك فوجدته بخط متوسطٍ خمس [كراريس] كوامل، وكان -عليه السلام- في الورع، والاحتياط على ما يليق بسعة علمه، وغزارة فهمه، والحكايات في ذلك كثيرة مذكورة، ونحن نشير هاهنا إلى طرف منها على وجه الاختصار، إذ لا يمكن إحصاء مياه البحار، ووبل الأمطار، فمن ذلك أنه كان يأتيه قوم كثير في أوقات مختلفة بشيء من الدراهم وغيرها، فيقبض ذلك منهم، ثم يشكون شكية، فيرد ذلك إليهم بعد إبلاغهم ما يجب إبلاغه.(2/154)


قال: الفقيه حميد - رحمه الله تعالى-: ولقد رأيته ذات يوم وهو قابض على درهم يريد صرفه لبيت المال عوضاً عن شيء لا خطر له من بقل تناوله وكان قد جيء به، من قوم فداءً وأمنَّ بعضهم دون بعض، فالتبس ذلك.
وكان معروفاً بالإيثار على نفسه من حال شبابه، كثير الإحسان إلى الوافدين، جم المعروف للطالبين يعطي ما يجد، ويستدين إذا لم يجد.
قال: وهذه أمور تعرف من حاله بالاضطرار.
قلت: وإلى هذا أشار السيد [صارم الدين] بقوله: وكان للمال في كفيه أجنحة.. البيت، وأما شجاعته -عليه السلام-، فكان في ثبات القلب، ومنازلة الأقران، ومجاولة الفرسان بحيث لا يتمارى فيه اثنان، كم [له] من موقف حطَّم فيه الوشيج وثلم فيه الصفائح ونيار الحرب تهيج، يشهد له بذلك يوم عجيب، وقد انهزمت جنوده الجمة، وهو في وجه العدو لا يرغب في التولي عن لقائه، حتى لقد دقه أخوه الأمير عماد الدين بالرمح دقة هائلة، لما تفرقت العساكر بعد أن أحب الصبر طلباً للشهادة، وكذلك يوم صنعاء، فإنه دخل في نفر يسير لا يدفع بهم عن نفسه، وفيها جنود العجم إلى سبعمائة فارس، فدخل المدينة غير هائب، وأذن مؤذنه بالأذان النبوي، وصلى وروعه مجموع، وقلبه غير مصدوع، وكذلك يوم ذمار؛ فإنه كان سابقاً بجنوده يذود جنود الأعاجم على كثرتها بين يديه، كما يذود الراعي غنمه، وبقي منفرداً لا ثاني له في الكرِّ على الأعداء، وقد ذكر ذلك في شعر له، فقال:
وفي ذمار تركت الجيش عن كمل.... خلفي وكافحتها عن دين معبودي(2/155)

111 / 205
ع
En
A+
A-