[ذكر اليامي محمد بن أحمد قاضي الاسماعيلية]
وأما قول السيد صارم الدين في منظومته: واليامي ذي النكر.. فوجدت مما نقلت عن خطه أنه عني به قاضي الاسماعيلية في زمانه، وعالمهم، ومنجمهم، وشاعرهم، محمد بن أحمد صنو حاتم بن أحمد، ولم أقف في سيرة الإمام أحمد على شيء دار بينه وبين هذا المذكور، فأذكره هنا، لكن إذا وصفت لك [بعض] ما دار بينه وبين أخيه حاتم بن أحمد كفى ذلك دليلاً على غزارة علم هذا الإمام، وتمكنه من الرد على من ناواه، على أن فيما أسوقه من خبره، إشارة إلى ذكر محمد هذا.
فأقول: إن مصنِّف سيرة الإمام، وكذلك في (الحدائق الوردية) للفقيه العلامة حميد بن أحمد، [ذكر] أن حاتماً لما كاتب الإمام مريداً للدخول في طاعته لم يقبله الإمام؛ لأمور قد عرفها منه، فرد حاتم بن أحمد كلاماً جافياً، وتمثَّل فيه بقول المتنبي:
كدعواك كل يدعي صحة العقل.... ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل
فرد الإمام -عليه السلام-:
إذا كنت لا تدري بما فيك من جهل.... فذاك إذاً جهل مضاف إلى جهل
ولم أنتحل ما ليس فيّ وإنما.... مقالي حق قد يصدقه فعلي
ومن جهل الرحمن والرسل لم يكن.... بمعترف يوماً بحق بني الرسل
وكل عباد الله غيرك عارف.... بما فيّ من أصل شريف ومن فضل
فرد عليه حاتم كلاماً فيه بيتا شعر هما:
لنا النهي فيما حرم الله والزجر.... وليس لكم نهي هناك ولا أمر
فلا زال ذا فينا وذلك فيكم.... مدى الدهر حتى يأتي الحشر والنشر
فأجابه الإمام -عليه السلام- بكتاب تمثل في أوله ببيت شعر يقول فيه:
لا افتخار إلا لمن لا ينام.... مدرك أو محارب لا يضام(2/146)
بسم الله الرحمن الرحيم
حمدت من أنطق الفيلسوف بذكره وحمده، وإن كان مبطناً من ذلك بخلافه وضده؛ لأنه سلك في مبتدأ كلامه طريقة محمودة، ولو أتمها قدم الجفاء والمشاتمة، ثم عاد إليها فتعدى الحدود المضروبة.
جرى ما جرى حتى إذا قيل سابق.... تلاحقه عرق الحران فبلدا
فرجع إلى عادته من سلاطة اللسان، والسلاطة آفة الإنسان، فكان مثله كمثل [صاحب] المارستان، ولا لوم له فإنه مضى يوم دخلنا عليه صنعاء بعض لب فؤاده، ومضى بعضه يوم الشرزة فبقى بلا لب إلا ما يتكلفه، وأما ما ذكره في الذين كفوه مؤنة الهجاء، فقد هجي رسول الله ً هجاه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث فرد عليه حسان بن ثابت بقوله:
هجوت محمداً فأجبت عنه.... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفؤ.... فشركما لخيركما الفداء
وما هو مثله وهم إلا مثل البعوضة لا يؤذي الإنسان إلا طنينها مع أذنه، فإذا طلبها لم يجدها، وقد بلغت مكروهه ومكروه غيره بحمد الله [تعالى].
إذا شئت أرغمت العدو ولم أبت.... أقلَّب فكري في وجوه المكايد
وقد هجانا أخوه الذي مات طريداً لنا، فناب عنا بعض شيعتنا فقال:
لو سار ألف مدجج ليحل في.... غمدان غير إمامنا لم يقدر
تلك الشجاعة لا شجاعة معشر.... مثل العجائز في ظلال المنظر(2/147)
وأما قوله: لهم النهي فيما حرم الله والزجر.. فلعل ذلك على الكلاب، والله ما [قد] عرفت لهم سابقة في جاهلية ولا إسلام، كان أول من تسلطن منهم حاتم بن الغشيم ؛ لأنه سرق السلطنة من آل الصليحي، وذلك أنه أسلفهم مالاً جمعه معهم، فأعطاه المكرم حلقته، فسرق بسبب الحلقة عدن، فتبعه المكرم إلى عدن، فخالفه إلى صنعاء، فهرب منه إلى براش، كما فعل هو كذلك، وكانت صنعاء لآل القتيب، وهو مشتغل في المنظر بالطب والتنجيم، واللعب بالكلاب، ثم افترق آل القتيب، و قتل بعضهم بعضاً، فخالفهم عليها، ولم تكن لأبيه ولا لجده، وأما قوله: لا يحسن بالرجل أن يمدح نفسه، وإن أحسن المدح ما أقر به الضد لضده، فلا يعلم اليوم أكثر منهم عداوة لنا، فقد شهد لنا بالإمامة، والوفاء، والزعامة، وقال فينا:
رأيت إماماً لم ير الناس مثله.... أبر وأوفى للطر يد المشرَّد
عفا ووفى حتى كأني عنده.... أخ أو حميم لست عنه بمبعد
[وقال أخوه أسعد في شعره] :
ملكت فأسجح منعماً يا ابن فاطمٍ.... وشيِّد مباني هاشم ذي المكارم
[إلى قوله] :
فإن كنت قد بلغت عني مقالة.... فقد تبت يامولاي توبة نادم(2/148)
وعمَّا قليل يقول كما قال أخوه، ويفرح أن يرجع إلى ما كان عليه أبوه، وقوله: ما يحسن بالرجل العاقل أن يمدح نفسه، فقد حكى الله عن يوسف –عليه السلام- أنه قال:{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }[يوسف:55]، وقال تعالى:{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ … الآية}[الشورى:41]، وقوله: إني طالب دنيا.
-وقوله: هذا طار وهذا فلت، ولذتي في الدنيا قتاله وقتال أمثاله من أعداء الله، وقد نغصت عليه وعلى غيره من أهل الدنيا دنياهم في كل ناحية، ولي اليوم نيف وعشرون سنة كلما فرغت من حرب قوم [من] الظالمين، قمت في حرب آخرين من أعداء رب العالمين، وإني لا أبرح كذلك حتى أموت، وأما قوله: إني كفيت ذم نفسي بأني له داء لا دواء له، فليعلم أن الداء الذي لا دواء له هو الموت، وأنا له كذلك –إن شاء الله تعالى-، وقد قال النبي ً: ((نحن السم فمن شاء فليستم، ونحن الشم فمن شاء فليشتم)) وأنا له داء ولضده دواء فليعلم ذلك والسلام، –وصلى الله على [سيدنا] محمد وآله وسلم-.(2/149)
قلت: وبهذه الجملة يفهم أن حاتماً من رؤساء الباطنية ووجوههم، الذين يعتقدون اعتقادهم، لكن وقفت على رسالة بخط الأمير الحسين بن محمد ملصقة إلى آخر سيرة الإمام أحمد بن سليمان، ذكر أنها من رسائل الإمام أحمد [بن سليمان] أجاب بها على فليتة، وقد اعترض عليه في الاستعانة بهمدان، فرد عليه بكلام قال فيه: فأما السلطان الأجل علي بن حاتم، فإنه مباين للباطنية بالقول والفعل، محارب لهم على ذلك، هو وأبوه وجده أما هو فحربه لهم مشهور ظاهر، وأما أبوه حاتم فكان يمقت الباطنية، ويتبرأ منهم، وله شعر يقول فيه:
بريت من الذويب ومن علي.... ومن ماذون همدان بريتُ
موادين عموا وغووا هداهم.... فإن شايعتهم فلقد عميتُ
ظموا ورويت من ماء معين.... ولو أني صحبتهم ظميتُ
شقوا بخلافهم للدين حقاً.... وخالفت الغواة فما شقيتُ
ولو أني أشا أشهرت منهم.... فضائح لا تواريها البيوتُ
أأخشى الناس في ديني وأعصي.... كأني بعد ذلك لا أموتُ
وقومي مذكر وشبا حسامي.... لسان مثله لولا الصموتُ
فإن ترني وإياهم جميعاً.... فقل كيف التقى ضبَّ وحوتُ
ولو وردوا الفرات لنجسوه.... ولم يك طاهراً حتى يموتُ
وهنا نثني العنان من استقصاء شرح ترجمة الإمام أحمد بن سليمان، وقد أشرنا إلى زبدة مما يتعلق بذلك حسب الإمكان، ونرجو من الله العون والقبلان.(2/150)