ثم أتى من الأمير الأجل محمد بن عيسى بن محمد بن جعفر، إلى نشوان مديح أوله:
ألا كل ما ناح الحمام المطوق.... بكيت وقد يبكي الحزين المشوقُّ
عدد فيها جدود نشوان، وذكر ملوك حمير من التبابعة وغيرهم، حتى قال في آخرها:
أولئك هم آباؤك الغر كلهم.... أبا حسن والفرع بالأصل ملحقُ
فهم كالنجوم الزهر إن غاب كوكب.... فذا بعده في الجو أزهر مشرقُ
وإني لأرجو أنك الكوكب الذي.... به ذلك الأصل المؤسس يسمقُ
لئن كنت قد أنسيت عقد مودتي.... فقلبي بأشطان المودة موثقُ
هذا آخرها، فأجابها نشوان بقوله:
أثار شجى ذاك الحمام المطوق.... أهيجه بثَّ به أم تشوقُ
به مثل ما بي من جوى غير أننا.... شجيان معكوم وآخر مطلقُ
أسر الذي يخفي الزناد ولم أبح.... به خوف نار منه تبدو فتحرقُ
وهي من جيد الشعر الذي يعمل بالفكر عمل السحر.
-قال الراوي: ثم كثرت الأشعار بين الأشراف ونشوان، والمدائح، ورفضوا الهجو الذي نظمته القرائح، -قال: ولقد تهاجى نشوان هو والإمام أحمد بن سليمان بعد المناظرة، التي وقعت بينهما، حتى [أنه] كان من نشوان أنه أرسل بأبيات يقول في أولها :
هل لك في هجرة تفوز بها.... فالهجر بين الرجال مطرحُ
لاغرو من صلحنا ومر يتنا.... على العلا نمتري ونصطلحُ
إني رأيت النعاج رابضة.... وادعة والكباش تنتطحُ
زعم بنا الحاسدون أنهم.... قد طال يا ابن الكرام ما فرحوا(2/141)
ثم مدحه نشوان بقوله:
يا ابن الأئمة من بني الزهراء.... وابن الهداة الصفوة النجباءِ
وإمام أهل العصر والنور الذي.... هدي الولي به من الظلماءِ
كم رامت الكفار إطفاء له.... عمداً فما قدروا على إطفاءِ
شمس يراها الحاسدون فلم يطق.... منهم لها أحد على إخفاءِ
يا داعياً تدعو الأنام برشدهم.... وصلاحهم في بكرة وعشاءِ
أسمعتهم فكأنهم لم يسمعوا.... ما جاءهم من دعوة ونداءِ
لبيك ألفاً من صديق وامق.... من بعد خذلان وطول إباءِ
قلت: وهذا البيت ونحوه يشهد بأن الحال من الإمام ونشوان اتحدت آخراً وأنهما ماتا على رعاية الوفاء وسلوك مسلك إخوان الصفاء، فيكون قول السيد صارم الدين مشيراً إلى نشوان في البيت السابق، منصرفاً إلى ما كان بينهما من المناظرة والمنافرة أول المدة، يزيد ما ذكرته وضوحاً قول نشوان في هذه القصيدة، بعد قوله: لبيك ألفاً:
من شك فيك كمن تبدل حيرة.... بهداية وعماية بضياءِ
يا خير من يمشي به قدم على.... وجه البسيطة من بني حواءِ
ما عاينت عيني البرية بعده.... إلا وهم فيها من الأقذاءِ
لم ألف بعدك من أسر بوجهه.... ممن أعضت به من الصدقاءِ
إن غبت عن نظر العيان فلم يغب.... ذكراك بين القلب والأحشاءِ
[يجري ودادك حيث يجري الروح في.... بدني وحيث تحل في أعضائي]
أقصي لبانتي التي أنا طالب.... في الدهر عاجل نظرة ولقاءِ
فأجابه الإمام أحمد بن سليمان بقوله:(2/142)
يا أوحد الأدباء والشعراءِ.... بل أوحد البلغاءِ والفصحاءِ
يامن له عقل رصين ثاقب.... ويعده العقلاء في العقلاءِ
ويعدهُ الفقهاء في الفقهاء.... وتعده العلماء في العلماءِ
لما زكت أعراقه وأصوله.... جادت له أفعاله بزكاءِ
حاز المكارم والمحامد والعلى.... إرثاً عن الأجداد والآباءِ
من حمير الأملاك خير قبيلة.... في يعرب والشوكة الحجباءِ
وافى الكتاب فكان كالماء الذي.... يُهدَى إلى العطشان في الرمضاءِ
ينبي بما تخفي وما تبدي لنا.... من محض ودٍّ خالص وصفاءِ
ومذَّكراً ما كان قدماً بيننا.... من صحبة ومحبة وإخاءِ
وملبياً لي إذ دعوت إلى الهدى.... كل البرية سامع لدعاءِ
وموازراً ومعاوناً ومساعداً.... ومعاضداً ومصدقاً لرجاءِ
فليبق في عيش هنيّء سالم.... في العز والتوفيق والنعماءِ
قال صاحب الرسالة التي نقلت منها هذه النبذة: فليعلم الواقف على هذا الذي أوردت من شعر الشرفاء، ونشوان أنه كان بعد كتاب (المسك) بمدة من الزمان.
-قال: ولو كان شعر نشوان المتقدم كفراً صريحاً، لكان شعره الأخير إسلاماً صحيحاً.
قال: وقد كان لنشوان عناية واجتهاد في قيام الأمير علي بن زيد، وقيام الإمام أحمد بن سليمان.(2/143)
-قال: وكذلك لما قام الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة -عليه السلام- خرج معه ابناء نشوان وجدَّوا واجتهدوا في خدمته، انتهى المراد اختصاره من الرسالة المذكورة، وإنما بسطت القول في هذا الفصل محبة مني أن يكون جميع الناس شيعة لأهل البيت، فمهما وجدت إلى جمع شمل الشيعة سبيلاً، أو لقيت إلى ذلك تأويلاً، جنحت إليه وعولت عليه، نعم قد حكى في كتاب (المفيد في أخبار صنعاء وزبيد) أن القاضي نشوان دعا إلى نفسه في بيحان، واجتمع معه قريب من سبعمائة فارس، وهذا إن صح يدل على أنه يصحح الإمامة في غير قريش، وقد روى عنه بعض أصحابنا اختياره لهذا المذهب، وقد وقفت له على كلام؛ يدل على أنه قد ندم على دعوته المذكورة، ووجدته مكتوباً بخط [حي] الفقيه محمد بن ناجي الحملاني -رحمه الله تعالى- ما لفظه: كان من علم الله وصولي إلى المشرق، فكلفني أهلها على أن أُحِمل الذر أحمال العير، وسمحوا بالَميْنِ والأيمان، وشحوا بالصدق والإيمان، فرغبت [وطمعت] في ظاهر كلامهم الذي سمعت حتى أدركني الإملاق بمأرب، فخرجت من الدائرة الرابعة إلى دائرة المتقارب.
فقلت:
ومشارق الأرض مثل الحبس في الضيق.... فمن تغرَّب لا يهمم بتشريق
لم يبق حي بهم حتى صحبتهم.... قد أنزفت بالرقى من أجلهم ريقي(2/144)
ولبثت بحضرموت كما لبث يونس ببطن الحوت، إلا أن بعض المفسرين قال: لبث [أربعين يوماً، ولبثت] سنتين ونصفاً، أخصف ورق الندامة خصفاً، أتعرض لرزق حلال، وما حصل ما فيه سد بعض الخلة، ثم عدت إلى مأرب، فلقيني من بها، وتعرض سفهاؤوهم للعطية، فقاسمتهم ما على المطية، ثم عولوا على العود إلى المغارب، وحلفوا أيماناً على التمام، وسلموا ذماماً بعد ذمام، فأشار السلطان راشد بن جحاف الجوفي بترك العود فقصدت الجوف، فلحقني من خولان آل قفيل فأخذوا القطار، وكانت الكتب على بعيرين، فسلم أحدهما، واقتدي الثاني، فسلمت ووصلت الجوف متخلياً من الأعوان والأنصار، ولو شئت وصلته بالجيوش الكبار، لكني قلت: {مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى }[القصص:60]، فأنشدت:
وما أنا إلا من غزية إن غوت.... غويت وإن ترشد غزية أرشد(2/145)