[ذكر القاضي نشوان بن سعيد الحميري]
وكم أجابا علي غاوٍ ومبتدعٍ.... كمثل نشوان واليامي ذوي النكرِ
المراد بنشوان هذا هو القاضي نشوان بن سعيد الحميري، فإنه من جملة علماء الزيدية ولم يكن يقدح عليه إلا بكثرة افتخاره بقحطان على عدنان، وله في ذلك هو والأشراف بني القاسم نقائض كثيرة، وأنا أشير إلى طرف منها على عادتي في الاختصار، إذ حصر ذلك جميعه لا يسعه هذا الشرح، فأول ما أذكره هنا العجب ممن يزعم أنه أخ للإمام أحمد بن سليمان من أمه، وفي هذا غاية الجهل؛ فإن أم الإمام الشريفة الفاضلة مليكة بنت عبد الله كما تقدم، وأم نشوان عربيه من آل أبي عشن، على وزن حسن، وهو بعين مهملة وشين معجمه و بعدهما نون، ذكر معنى ذلك في (شمس العلوم) وفيه يقول الشاعر:
وسيد همدان أبو عشن الذي.... غزا بيشة واجتاحها بعظائم
ثم إنه كان بينه وبين الإمام في ابتداء الأمر عداوة ومهاجاة، أنا أورد طرفاً منها، ثم تلا ذلك التعاطف والتلاطف كما سنراه، فأي دليل يدل على أنهما أخوان، ودليل صفاء الوداد بينهما أنه لما توفي المطهر بن الإمام ووردت التعازي فيه إليه من كثير أهل الإسلام، كان من جملة من كتب إليه يعزيه فيه القاضي نشوان.
-قال راوي سيرته -عليه السلام-: وصدرت مكاتبة للشيخ الجليل نشوان بن سعيد، واعتذر من الشعر، وقال: والله ما أحسنت غير التمثل بقول الشاعر:
كذا فليحل الخطب وليفدح الأمر.... وليس لعين لم يفض ماءها عذر
تكَّدرت الآمال بعد مطهر.... وأصبح مشغولاً عن السفر السفر(2/136)
قلت: وهذان البيتان في مطلع قصيدة لأبي تمام رثى بها محمد بن حميد الطوسي الطائي فغير القاضي نشوان لفظ محمد بمطهر، وهذه المرثية من جيدات المراثي، ففي الرواية أن أبا تمام لما مدح أبا دلف بالقصيدة الجيدة التي أولها:
على مثلها من أربع وملاعب
استحسنها وأعطاه خمسين ألف درهم، وقال له: والله إنها لدون شعرك، ثم قال: والله ما مثل هذا القول [في الحسن] إلا ما رثيت به محمد بن حميد.
-فقال له أبو تمام: وأي ذلك أراد الأمير؟
-فقال له: قصيدتك الرائية وددت أنها لك فيّ.
-فقال [له] أبو تمام: بل أفدي الأمير بنفسي وأهلي، وأكون المقَّدم قبله.
-فقال: إنه لم يمت من رثيَّ بهذا الشعر. انتهى.
قلت: وقد وقفت على رسالة أظنها لبعض ذرية نشوان بن سعيد، قال فيها: والمشهور من نشوان –رحمه الله تعالى- أنه كان يختار أقوال الهادي –عليه السلام-، على سائر فقهاء الإسلام، ويحكم بها بين الخاص والعام، إلا أن تتقوى عنده دلالة فيخبر المستفتين بالخلاف الواقع من أهل الإسلام، وكان في عصره جملة من العلماء هم نجوم في الأرض كنجوم في السماء، من علماء قحطان ونزار، فلم يزر عليه في مذهبه زارٍ مع كثرة المناظرة في ذلك والمذاكرة، وكان في ذلك العصر مظهراً لمذهبه في أشعاره وكتبه، ولم يقع بينه وبين أحد من أهل عصره جفا سوى الأشعار التي قالها هو والشرفاء.(2/137)
قال نشوان: انقضت النقائض بيني وبين الشرفاء القاسميين، وذلك قبل طرور الشارب، وبلوغ المآرب، فأما اليوم فقد زدت على الأشد، وصرت من الهزل إلى الجد، وأتاني نذير الشيب، وزايلني كل ريب، وتحليت بحلية الوقار، ونظرت نفسي بعين الاحتقار، ورغبت عن القريض، وملاهي معبد والغريض، وأقمت الشعر بأبخس السعر، واعتضت القرآن بالشعر بدلاً، وتركت الجدال، {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً }[الكهف:54]، وذهبت في ذلك مذهب لبيد واستبداله الشهد بالهبيد، وجعلت مقاطيع الآيات عوضاً من مصارع الأبيات، وذكر الله عوضاً عن التشبيب، وذكر المعاد بدلا من الربع والحبيب، ولست من الشعراء بل من عباد الله الفقراء، الذين تحل لهم صدقة الدعاء، التي لا تفيض في الوعاء، وزكاة الاستغفار التي تصرف العذاب عن الكفار، ثم قال: والشرفاء أبقاهم الله مما سألت مبرؤون، ومما ظننت مكبرون، فلتشملني بركتهم بهبة أفضل الصدقات إذا ذكروا الله في أفضل الأوقات، وهي صدقة الدعوات عقيب الصلوات، {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ }[يوسف:88]، ويجعل العاقبة للمتقين، فدعاء الشرفاء المالكين مجاب، وليس بين العبد وربه حجاب، فلعل الله أن يمحو عني موبق الذنوب، ويغسلني من رحمته بِذَنوب، فقد ضقت ذرعاً بما فرطت وأنشبت نفسي في أضيق المسالك وورطت، واصبحت لنفسي ظالماً، ومن ظلم غيرها سالماً، ولكني أستغفر رباً كريماً،{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً}[النساء:110] قال صاحب الرسالة: هذا من كلام نشوان(2/138)
بعد كتاب (المسك).
- قلت: ولعله كتاب ديوان أشعاره.
-قال: فهل صاحب هذا الكلام حقيق بسب أو ملام؟
-قال: ثم وصل إلى نشوان شعر من الأمير عبد الله بن القاسم بن محمد بن جعفر، وهو الذي كان يهاجي نشوان، فيه يقول:
فليهن ندباً سيداً شرفت به.... من حمير الأحياء والأموات
إلى آخرها.
فأجابه نشوان بقوله:
أما كتابك يا ابن أوحد هاشم.... فحديقة فيها الكلام نبات
قد أثمرت محض الوداد وفاح لي.... من طيبات نسيمها نفحات
غرس امرئ طابت مغارس أصله.... فزكا وطاب فعاله والذات
فغدا وحيد العصر غير مدافع.... تزهو به الساعات والأوقات
أثنى عليَّ ببعض ما هو أهله.... وله المكارم والندى عادات
ثم أتى إلى نشوان شعر من الأمير الأجل محمد بن محمد القاسمي يمدحه فيه، ويعتذر من الهجو الذي سبق من الأمير عبد الله بن القاسم، الذي أوله: أما الصحيح فإن أصلك فاسد.
وقد تقدم من نشوان [جواب] عليه في ترجمة الحسين بن القاسم، فخذه من هناك، فأجاب: نشوان على الأمير محمد بن محمد عن الاعتذار هذا بقوله:
أعلى الكآبة منكما لي مسعد.... فالخل يأسى للخليل ويكمدُ
إن طاب عيشكما وطاب كراكما.... فأخوكما مر المعاش مسهدُ
في قلبه من عتب ابنا قاسم.... حرقُ تأجّجُ نارها وتوقدُ
قوم لهم شرف ومجد باذخ.... من تحت أخمصه السها والفرقدُ
وعلى محبتهم نشأت ووالدي.... والحب يولد والمحبة تولدُ
حتى سعت بيني الوشاة وبينهم.... فأمال عبد الله عني الحسَّدُ
وأطاع أمرهم وصدَّق قولهم.... فأتى بقافيه تقيم وتقعدُ(2/139)
فيها مقال منه ليس بجيد.... ما بال عبد الله وهو الجيدُ
فرددت حين بهت غير مبالغ.... في الرد خوفاً من مقال ينقدُ
وغدوت مظلوما كأني ظالم.... إني على ما نابني متجلدُ
يا ابن الأئمة من ذؤابة هاشم.... حيث انتهت علياؤها والسؤددُ
وافا كتابك بالصلاح مبشراً.... لا زلت تصلح أمرنا وتفقدُ
ونظامك الحسن الذي أهديته.... تحي القلوب به إذا ما ينشدُ
حققت فيه مودة لك ضعفها.... عندي ووداً في الحشا يتجددُ
وذكرت آل محمد وودادهم.... فرض علينا في الكتاب مؤكدُ
وذكرت زيداً والحسين ومولداً.... لهما زكي الأصل نعم المولدُ
بأبي وأمي من ذكرت ومن به.... يهدى الجهول ويرشد المسترشدُ
[ومنها قوله] :
واترك جعيداً سوف يلقى ربه.... ويصيب ما زرعت يداه ويحصدُ
وتغمد الخطأ الذي منه جرى.... فالسيد المحمود من يتغمدُ
والعفو منكم عادة مألوفة.... والناس يطلب عندهم ما عودوا
[ومنها] :
وأنا المناضل ضدكم عن دينكم.... والله يشهد والبرية تشهدُ
لا أستعيض بدين زيد غيره.... ليس النحاس به يقاس العسجدُ
إني على العهد القديم محبكم.... كلف الفؤاد بكم وجسمي مبعدُ
ثم أتى من الأمير الحسين بن القاسم بن محمد بن جعفر شعر إلى نشوان يمدحه فيه، فأجابه بهذا الشعر:
والله و الله العظيم أليَّة.... يهتز عرش الله منها الأعظمُ
إني لودك يا حسين لمضمر.... في الله أبديه وحيناً أكتمُ
ولود والدك الذي آثاره.... عنه بحسن حديثه تتبسمُ
ولود عميك اللذين كليهما.... في صالحي آل الرسول مقدمُ
ولود سائر أهل بيت محمد.... و ودادهم فرض لدي ومغنمُ
قوم أدين بدينهم وبحكمهم.... ونصوصهم أفتي الخصوم وأحكمُ
وأنا المحب بن المحب وإن وشى.... واشِ ورجَّم بالظنون مرجمُ
[إن اللسان عن الفؤاد معبر.... والنطق عما في الضمير مترجمُ]
يا طيباً من طيب ومطهراً من.... طاهر ما فيه وصم يعلمُ
شوقي إليك على البعاد مضاعف.... يزداد لاعجه وقلبي مضرمُ(2/140)