-فقال: مثلي ومثلكم مثل رجال عشرة صحبهم رجل أجنبي، حتى دخلوا منزل رجل فأضافهم ذلك الرجل، وأكرمهم، وتركهم في منزله آمناً لهم، فوجدوا له صندوقاً فيه ألف دينار، فقام العشرة، وكسروا قفل الصندوق، واستخرجوا الألف واقتسموها، فأخذ كل واحد منهم مائة [فصيرها في ثيابه]، وذلك الأجنبي ينظرهم، فلما جاء صاحب البيت وجد الصندوق قد كسر، وقد أُخذ منه المالُ.
-فقال لهم: إنكم أخذتم من الصندوق ألف دينار، وقد أمنتكم.
-فقال العشرة: أمَا ترضانا شهوداً لك؛ بأن هذا الرجل الأجنبي أخذها ونحن ننظر.
-فقال الرجل الأجنبي: أمَّا أنا لم آخذ شيئاً، ولا [أنا] أقول إنهم الآخذون، ولكن فتشنا فما [قد] قام أحد منَّا بعد، ففتشه فلم يجد معه شيئاً، وفتَّشهم فوجد مع كل واحد منهم مائة [دينار] فضرب القاضي لهم هذا المثل، فلم يسمعوه، ولجوا في جهلهم وطغيانهم، ونزل إليهم إلى وقش، وأراهم كتب الأئمة التي معهم في وقش، وقال لهم: نتدبر ما في هذه الكتب لنعرف الذي خالفها منَّا ومنكم.
-فقال. مصنِّف سيرة الإمام أحمد بن سليمان –عليه السلام-: فلم يسمعوا كلام القاضي جعفر وآذوه، وقام في وجهه رجلان باطنيان، يقال لأحدهما: مسلم اللحجي من أهل شظب.(2/131)
والآخر يقال له: يحيى بن الحسين، يلقب الفقيه، فآذياه وسباه، فعاد إلى سناع ومعه جماعة من الأشراف، منهم الأمير بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى وغيره من أعيان السادة الهدويين، والحمزيين، والعباسيين، ومن أعيان الشيعة عدة، وكان للقاضي في مسجد سناع مدرسة، فعارضه المطرفية في مدرسة أخرى في جانب المسجد، فقام بعض الأشراف فأطفأ سراجهم، فعادوا فأطفأوا مصباح القاضي جعفر، ووقع بينهم كلام، وارتفع القاضي إلى منزله، فرجموا لهج بيته بالليل، وقد كان القاضي -رحمه الله تعالى- ضرب لهم مثلاً آخر.
-فقال: مثلكم ومثلي كمثل قوم عراة في مسجد في ظلمة، وأصواتهم مرتفعة بالقراءة والصلاة، وهم يصلون عراة إلى غير قبلة، فدخل عليهم رجل بمصباح، فوجدهم على أقبح حال عراة، فأجمعوا على الذي دخل بالمصباح يلعنونه ويسبونه.
-فقال: ليس لي جرم غير أني دخلت بالمصباح.
-فقالوا: بلى، إنك أظهرت ما كنَّا نكتمه، وآل الكلام إلى أن الإمام -عليه السلام- بعد أن بلغه ما لقيَ القاضي من المطرفية، قال: قد وجب علينا نصرته، فلم يزل يطوف البلاد، وهو ينهي الناس عن مذهبهم ويحذرهم منه، حتى أثر ذلك مع أكثر الناس ونفروا منهم إلا القليل، على ماهو مذكور في سيرة الإمام -عليه السلام-.(2/132)
نعم وللقاضي جعفر مصنفات في كل فن، عليها اعتماد الزيدية، وله قصد صالح ووجاهة فلهذا استفاد عليه جماهير علماء الزيدية في وقته، وصاروا أئمة يضرب بعلمه المثل حتى قيل: هم معتزلة اليمن، وقبره مشهور مزور بسناع من أعمال صنعاء وقد زرته -رحمه الله-، وله عقب مشهورون.
[ذكر القاضي إسحاق بن عبدالباعث - رضي الله عنه -]
فصل في ذكر طرف من أحوال القاضي إسحاق المذكور في بيت السيد المقام صارم الدين
هو الشيخ الصدر العلامة إسحاق بن أحمد بن عبد الباعث، وقد تقدمت الإشارة إلى ذكره، وأنه لقي الشيخ الحاكم أبا سعيد، وكان القاضي إسحاق من علماء الزيدية وعظماء أنصار العترة النبوية، وله في الإمامات تصانيف جمة ورسائل كثيرة، وكانت زيديته خالصة، وهو صنو القاضي جعفر في العلم والبراعة، إلا أن أكثر مصنفاته في الإمامات وأحكامها، ورسائله في سيرها وأغراضها، وله رواية واسعة عن أكابر أئمة العترة النبوية، ومن طالع مصنفاته ورسائله عرف صحة محبته لأهل البيت -عليهم السلام-، وأنه فيها السابق المجلى.(2/133)
يحكى أن الشيخ الكبير المعظم الخطير، المسمى السعد بن أبي الليل الجابري ثم الخولاني وصل من مغارب صعدة فدخل مسجد الهادي –عليه السلام- قاصداً للقاضي إسحاق المذكور، وكان إمام محراب مسجد الهادي –عليه السلام- والخطيب بصعدة للإمام –عليه السلام-، فقال للقاضي: قد كنت أتمنى أن القاك وحدك وأنا رجل جاهل لا أقرأ ولا أكتب، وقد قمنا مع هذا الإمام وقتلنا وقُتلنا وأعطيناه الزكاة من أموالنا، ولا ندري نحن على صواب، أم على خطأ، وأنت اليوم أكبر علماء بلادنا وقد أردت أن أجعلك بيني وبين الله، وما هديتني إليه فعلته، وإن استكتمتني حديثاً كتمته، وأقسم له على ذلك بأيمان مغلظة من أيمان وطلاق ونذر أن لا يخرج له سراً استكتمه إياه، فغضب عند ذلك القاضي إسحاق، وقال له: أفأكون على هذا السن في هذا المكان الشريف أخطب له في مسجد الهادي على منبر المرتضى والناصر–عليهم السلام- في كل جمعة في مثل هذه المدينة وأدعوا له ويكون عندي غير ما أبدي، أتجعلني منافقاً، وتعب من كلامه تعباً عظيماً فاستعطفه واعتذر إليه، وقال: قد قلت لك في أول كلامي: إني رجل جاهل، فأقبل إليه القاضي وقال له: أنت مصيب في جهادك، وهو الإمام فزد مع جهادك جهاداً، ومع اجتهادك اجتهاداً.
قال. السيد العلامة الهادي بن إبراهيم في (كاشفة الغمة) ومنها نقلت هذا الفصل برمته في ترجمة القاضي المذكور؛ لأنه مناسب لميلي إلى الاختصار، فقال السيد المذكور: وسمع من يروي أن الدعاء عند قبره مستجاب وقد جرب.(2/134)
قال: وقبره رضي الله عنه تجاه المنصورة بصعدة إلى جهة المغرب، وهو مشهور مزور، توفي -رحمه الله تعالى- سنة خمس وخمسين وخمسمائة، قال: وله تعليق معروف على (الإفادة)، وكان فقيهاً بارعاً فرحمة الله عليه ورضوانه. انتهى.
ولنرجع إلى ذكر من نظمه السيد في ذكر الإمام أحمد بن سليمان -عليه السلام-.(2/135)