هذا المقام من أعظم مقامات الإمام -عليه السلام-، وله فيه من الآيات العظام والمناقب الجسام ما يتجدد، ولا يبيد على مرور الدهور والأعوام، فلقد قام فيه لله بشدة عزم وأيد، ولا مقام عمرو بن عبيد ولا غره بذل المال من عمرو وزيد، تفادياً لرفع الحد عن ذلك العبيد، وذلك أن في الرواية على وجه الاختصار أن الإمام -عليه السلام- قصد زبيد في سنة ثلاث وخمسين، ولما وصلها أقام بها ثمانية أيام، وكان أميرها يومئذٍ فاتك بن محمد بن جياش أصله حبشي على ما هو مذكور في التواريخ.
قال الراوي: وكان فاسقاً خبيثاً، يغلب عليه الفساد في نفسه، حتى روي أنه كان له بريمان في بطنه كالمرأة، فعنى الإمام في قتله بعد أن بذل له مالاً كثيراً في سلامته، فأقسم بالله لو أعطي ملك زبيد لا فداه، فقتله حداً؛ لقوله ً: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه ))، فراوده أصحابه عن أخذ المال وقالوا: إنه لبيت المال، فقال: قد نزهت نفسي عن الطمع عند أهل زبيد وقلت لهم: إني لا أسألكم شيئاً، وتلوت عليهم قوله تعالي:{قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } [فاطر:47] إلى آخر الآيه، وكان القواد يعطون العساكر نفقاتهم.
قال : وأما أنا فلا أقبض شيئاً، وكان معه ومع أصحابه زاد، فلما فرغ كان يأمر من يشتري له الطعام، ويأمر من يطحنه، وكانت حاشيته مقدار ستين رجلاً، وولَّى على زبيد والياً من جهته، وعاد سالماً منصوراً.(2/126)
تنبيه: اعلم أن استقصاء أخبار الإمام هنا يخرجنا عن الاختصار إلى حد الإكثار، فلتقع الإشارة إلى ذكر ما وليه من البلاد، وما يتعلق بذلك، وذكر مدته، وما انتهى إليه أمره، وذكر وفاته، وموضع قبره، وكم له من الولد، وبالله نستعين.
فأما ما وليه من البلاد فقد تقدم أنه انتظم أمره أولاً بصعدة ونجران، ثم عرض عليه الخلاف من أهل صعدة كما تقدم.
قالوا : وولي بلاد وادعة وسنحان، وشريف، وولي بلاد خولان، والجوف، والظاهر، وصنعاء وأعمالها، وبلاد مذحج ونواحيها، وخطب له بينبع، وخيبر، ونفذت ولايته إلى الجيل والديلم، وكانت مدة ولايته ثلاثاً وثلاثين سنة، وأصابه العمى في آخر عمره، فأسره فليتة بن قاسم القاسمي، فغضبت رجال همدان عاصيها ومطيعها حتى قرامطتها وأنفوا أشد الأنفة، فنزلوا على فليتة مستشفعين في أمره بشعر، يقول قائلهم:
نحن بني هاشم لكم خدم.... بحبكم نلتوي ونلتزم
أنتم لنا كعبة نلوذ بها.... وسو حكم من جهاتنا حرم
فلا ترد الوجوه عابسة.... عنك وقد قابلتك تبتسم(2/127)
فنزل إليهم فليتة، فأقسموا لا برح حتى يرسل الإمام [عليهم] عليه السلام فأرسله عن كره منه، وتوفي الإمام -عليه السلام- في شهر ربيع سنة ست وستين وخمسمائة بحيدان من أرض خولان، وقبره هناك مشهور مزور، ومولده سنة خمسمائة وله من الأولاد: مطهر الأكبر، كان من أعيان العترة الأكرمين، وعباد الله الصالحين، وكان من أكبر أعوان أبيه، وملك ناحية في الجهة اليمانية، وقصته في ذلك مشهورة [مذكورة في سيرة أبيه]، ورثي بمراثي كثيرة جيدة في سيرة أبيه، ثم مطهر الأصغر، ويحيى، وسيأتي ذكره، ومحمد، وسليمان، وفليتة، وقاسم، ومحسن، وابنتان.
واعلم أيضاً أنه كما قد عورض غيره من الأئمة، فقد يفهم من سياق ما جرى عليه من لزم فليتة أنه لم يكن ذلك إلا لاعتقاد فليته أنه أهل للإمامة كما وجدت ذلك في جواب من الإمام- عليه السلام- على فليتة المذكور بخط الأمير الحسن بن محمد، مضمونه: إنك يا فليتة.
إن ادعيت الإمامة، فقد نقضت أصلك، وأصول أصحابك الحسينية لاعتقادك أنت وهم في الحسين بن القاسم أنه حي [فنقضت] بهذه الدعوة ما أبرموه، وأفسدت ما أحكموه، إلى آخر الجواب، وكذلك في سيرة الإمام أحمد بن سليمان -عليه السلام-، ما لفظه: إن أهل الحقل يعني بذلك صعدة وأعمالها، قوموا الشريف عبد الله بن محمد البهول وأمروه بالمعارضة، فخرج إلى الربيعة بخزيمة و نحر على مقابرهم فأجابوه وأقاموا معه بالخلاف، وللإمام في ذلك شعر مذكور في سيرته أوله:
ماخرد يزرين بالأنوار.... وكواعب ككواكب الأسحار
إلى آخره.(2/128)
[ذكر القاضي جعفر بن أحمد بن أبي يحيى-رضي الله عنه-]
ولنعد إلى ذكر، من أشار إليه السيد في أثناء ذكر الإمام، ومن نصره من أعيان العلماء، ومن عارضه من غيرهم، فنقول:
وجعفر ثم إسحاق له نصرا.... في عصبة وزر ناهيك من وزرِ
أراد بجعفر القاضي العلامة جعفر بن أحمد بن [أبي] يحيى بن عبد السلام، عالم الزيدية المخترعة وإمامها، وقد كان أبوه عالم الباطنية، وحاكمها، وخطيبها، والذي إليه يصدرون، وعلى رأيه يعتمدون، وأخوه يحيى شاعرهم، ولسانهم قيل: قتله عبد النبي بن مهدي فهدى الله القاضي جعفر فانقطع إلى الزيدية، ورحل إلى العراق.
قال السيد الهادي -رحمه الله تعالى- في (كاشفة الغمة): إن القاضي جعفر كان من أعظم أعضاد الإمام أحمد بن سليمان وأنصاره، قال: وطالما ذكرهما الإمام المنصور بالله -عليه السلام- واحتج بكلامهما، فيقول: قال الإمام والعالم، ذكر الإمام والعالم، أفتى بذلك الإمام والعالم، وقد قيل: على أهل اليمن نعمتان في الإسلام والإرشاد إلى مذهب الأئمة -عليهم السلام-:
-الأولى: للهادي -عليه السلام-.
-والثانية: للقاضي جعفر -رحمه الله تعالى-.
وكان ابتداء وفقته للإمام -عليه السلام- بذمار وقت مخرجه إلى زبيد، فاعتذر إليه من أمور كانت منه مع المطرفية فيما سبق، ولما وصل العراق تبين له أنه على غير شيء، فعذره الإمام -عليه السلام- وجعله في حل، وقال له: هل علمت يا قاضي أحداً ممن لقيته بالعراق يقول شيئاً مما تقوله المطرفية، أو يعتقده أو يعمل به، أو وجدت ذلك في كتاب؟(2/129)
قال: لا، قال: فإنه يجب عليك ردهم عن جهلهم، وتنكر عليهم بدعهم، فإن النبي يقول: ((إذا ظهرت البدع من بعدي فليظهر العالم علمه، فإن لم يفعل فعليه لعنة الله)).
-فقال له القاضي: قد عرفت ما تقول، ولكن القوم كثير، وقد صاروا ملئ يمننا هذا فلو أنكرت عليهم لرموني عن قوس واحدة، وأنت يا مولانا تبعد وتقرب وإني أخافهم ولا طاقة لي بهم، فوقع كلام الإمام في أذن القاضي، وهو ممن علم وعمل، فتقدم وأظهر كتبه التي وصل بها من العراق، وتعرض للتدريس والتعليم في سناع، فلما تسامع به الناس وصلوا إليه من بعيد وقريب، فعند ذلك وقع من أهل وقش من الغم ما لا مزيد عليه لوجهين:
أما أحدهما: فغاروا منه، وعلموا أنه يستميل الناس عنهم، ويأخذ ما يعتادونه منهم.
-و[الوجه] الثاني: أنه يبين للناس ما يكتمونه من مساوئهم، وقبح اعتقادهم، فانصرفوا وعملوا الملاقي، وكتبوا إلى جميع أصحابهم وتكلموا على القاضي بما ليس فيه، وهجوه، وقالوا للناس: هو باطني ابن باطني، فقال: هلموا إلى المناظرة فأظهر ما فيكم، وأظهروا ما فيَّ بين يدي حاكم.
-فقالوا: ومن الحاكم؟
-فقال: إمام الزمان، فأبوا ذلك.
-فقال: فهلموا نتنافس عند العامة، وضرب لهم مثلاً.(2/130)