قال: فطلعه الإمام -عليه السلام-، وأنشأ العمارة فيه والبناء، وأحكم دوائره، وطرقه ومناهله، وقصر دار الإمارة في قبليه، وبنى فيه بالجص والآجر، وأما قول السيد صارم الدين: وصبحت خيله صنعاء معلمة… البيتين، فذلك إشارة إلى ما ذكره مصنف سيرته -عليه السلام-، حيث قال: إن جماعة من رؤساء اليمن وصلوا إليه- عليه السلام- إلى بيت بوس، فلقيهم إلى السهل، فما زالوا يسلمون عليه زمراً زمراً، وفداً بعد وفد حتى اجترحت كفه، وسال منها الدم من كثرتهم، وكثرة سلامهم، [فلما فرغوا] أموُّا من ساعتهم صنعاء، وقد اجتمعت [فيها] همدان مع حاتم بن أحمد، فوقع فيها قتال شديد على جوانبها، وكان مسجد الجامع ملزوماً، ثم إن أهل السرار من أهل صنعاء دخلوا المسجد ولزموه، وأبدوا الخلاف مع الإمام، وأثاروا الفتنة على همدان، فدخلت خيل ورجل من أصحاب الإمام على همدان المدينة حتى صاروا في الميدان، وأغلق بعدهم باب غمدان، وحيل بينهم وبين من بقي من أصحابهم خارجاً، فقاتلوا قتالاً شديداً، وأبلوا بلاءً حسناً، فأنكوا في همدان، وأخذوا القطيع، وقربوا من درب صنعاء، وكان الإمام –عليه السلام- عقد لكبار الناس ورؤوسائهم رايات، وكان ممن أعطاه رجلاً من أهل صنعاء، وكان محباً لحاتم، فقرب برايته فأعطاها رجلاً في الدرب من همدان، فأخذوها ونصبوها معهم في رأس الدرب، وصاحوا بالطاعة والجوار، فكفَّ الناس عنهم بعدما نال الفريقين العناء العظيم، والإمام -عليه السلام- إذ ذاك ببيت بوس فلما بلغ الإمام ما فعله ذلك من إعطائهم الرايةلم يمكنه إلا الرضا بما فعل، ثم إن حاتم بن أحمد طلب(2/121)
الجوار والصحابة من الإمام، فأصحبه بعض الأشراف الكبار، وجماعة من مشائخ مذحج وخرجوا به من صنعاء إلى الإمام، فلما وصلوا به إلى بيت بوس، ومعه من وجوه همدان، فعند أن قابل حاتم الإمام، أنشد متمثلاً بقول كعب بن زهير :
أنبئت أن رسول الله أوعدني.... والعفو عند رسول الله مأمول
ثم قرب من الإمام -عليه السلام- فسلم عليه هو ووجوه أصحابه، وسأله الأمان والعفو، فعفى عنه، وحلفه هو وأصحابه وبايعهم، وأمسوا تلك الليلة ببيت بوس وساروا من الغد إلى صنعاء، فدخلها على أحسن حال، وأنعم بال، قد مكَّنه الله من الظالمين، وبَّوأه منازل الفاسقين، وفتح له فتحاً مبيناً، ونصره نصراً عزيزاً، وأظهر العدل في الناس، فأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وولىَّ القاضي جعفر بن أحمد على القضاء والصلاة بالناس، وولَّى السوق قوماً آخرين، واستقرت له [الأمور] وخضعت له الرقاب، وأقبل الناس من كل جهة يتوددون ويهنئون ويسلمون ويطيعون، وقامت الشعراء بين يديه بالأشعار، وكان من أحسن ما قيل فيه أبيات لسليمان بن فضل يقول فيها:
يوم صنعاء كيوم مكة بل.... أعظم من يوم مكة أضعافاً
فُتحت بالحسام في طرفة العـ.... ـين كما يخطف الحسام اختطافا
وقعة أفزعت يعوق ونسرا.... ويغوث وأتبعتها أسافا(2/122)
والأشعار في ذلك كثيرة، حذفتها اختصاراً، وأما قول السيد: واجتاحه يوم شيعان البيت، فإشارة إلى ما ذكره مصنف سيرته -عليه السلام- المذكورة في ذكر يوم الشرزة وهي وقعة مشهورة، فقال: إن الإمام -عليه السلام- نهض من اليمن بقبائل مذحج من جنب، وعبس وزبيد، فاجتمع معه منهم بشر كثير، [وخيل كثيرة] زهاء من ألف وثمانمائة فارس، وذلك في شهر شعبان من سنة اثنتين وخمسين، فحطَّ بهم في جهران، ونهض حاتم بن أحمد من صنعاء بمن معه من همدان، وغيرهم فحطَّ في نجاد الرفاص، وصار العسكران ينظر بعضهم بعضاً، فأقام الإمام -عليه السلام- في محطته أربعة أيام، وعسر على عسكره طلوع النقيل، وقد لزم عليه رأسه، فتقدم الإمام بهم طريق نغيل وكان في ذلك دلالة على صحة ما روي عن أمير المؤمنين –عليه السلام- في ذكر المنصور فقال: اضطرابه في أمره، وشدته في قهره ما بين النقيل إلى نغيل.(2/123)
قالوا : فسار بالعسكر إلى أن حطَّ بهم بموضع، يقال له: نجد الشرزة، ونجد شيعان وجوب فحطَّ هنالك، ونجد الشرزة هذا: موضع في وادي ضيق بين قرون وحصون، فقال له الناس: ليس هذا موضع محط، فقال لهم: حطوا فيه، فإن الله سبحانه سينصركم، ويظفّركم على عدوكم فحطوا هنالك، وكانت خيل الإمام كثيرة، ورجله قليل، وكانت خيل حاتم بن أحمد تسعمائة فارس معدة كلها، ورجله عشرة آلاف فيهم ثلاثة آلاف قايس وألف فارس: فبينا الإمام وأصحابه غفول، ومعهم منشد ينشدهم، إذ بدى عليهم من أسفل الوادي أول القوم فلم يفزعوا منهم، وظنوهم الأنباء وهم صديق، فلما قرب القوم أيقنوا أنهم من الأعداء فلم يمكنهم لبس السلاح والشد على خيلهم فوقع الطعن بين العسكرين، فابتدروا كالأسود الضارية إلى جهة القوم بذلك الوادي، وكان أول النهار للقوم، فعند ذلك رفع الإمام يديه إلى السماء، وقال:" اللهمَّ، [إنه] لم يبق إلا نصرك، وقال في نفسه: إن ظفر القوم بنا ظهر مذهب الباطنية وهلك الإسلام والمسلمون، فعند ذلك أرسل الله ريحاً عاصفاً من المشرق، فقابلت وجوه القوم، فاستبشر الإمام بالنصر من الله، وقال لأصحابه: احملوا، ثم حمل من نهجه، فانهزم القوم، وأعطى الله النصر عليهم، ومنح القوم أكتافهم، ولم يزد أحد يتبعهم، فانجلت المعركة عن خمسمائة قتيل، وخمسمائة أسير، أوقريب من ذلك، ولم تزل الهزيمة فيهم إلى صنعاء، ثم انهزموا من صنعاء، فتعلقوا بالحصون، ثم أمر الإمام -عليه السلام- بهدم درب غمدان، وهو درب منيع قد كان عني حاتم بتحصينه وبنائه، وقد كان رتَّبه له رجل من مصر، يقال له: القاضي(2/124)
الرشيد على ترتيب القاهرة بمصر، وذلك أنه حفر بئراً فيه، وهو جبل حتى لحق الماء، ثم بنى درباً مدوراً، وكبسه بالطين الرطب حتى صار قطعة واحدة قياس وطن الرمح منكوساً، ثم بنى عليه دايراً ورفع في وسطه قصراً مربعاً على أربعة سقوف، وبنى أربع غرف في أعلاه، واستوعب فيه دوراً كثيرة من دور أهل صنعاء خربها وأخذ جصتها وآجرها وخشبها، وبنى ثمّ سوراً محيطاً بالدرب، ثم خندقاً من بعده، وصار قاهراً للمسجد والدرب وصنعاء كلها، ولم يبن في اليمن مثله، وفي هذه الوقعة يقول القاضي محمد بن عبد الله الحميري في عيد الفطر، وقد عيد الإمام -عليه السلام-بهجرة سناع:
تُهنَّا بك الأعياد إذ أنت عيدها.... وإذ أنت منها بدرها وسعودها
فخمس مئين حزَّ منها وريدها.... وخمس مئين أثقلتها قيودها
وطاروا إلى روس الجبال شلائلاً.... من الخوف فيها خافقات كبودها
[حتى قال] :
وسرباً لغمدان المنيف فأصبحت.... ذوائبه في الترب ثاوٍ مشيدها
وأضحى ابن عمران المتوج حاتم.... يقول: ألا عفواً فلست أعودها
وآبت بنفس لا يزال نفيسها.... إلى كل مجد ليس يُحصَى عديدها
إذا طلبت همدان منك إقالة.... وسنحان يوماً واستقام أويدها
فعد لهم بالصفح منك وبالرضى.... فلن يبلغ الغايات إلا معيدها
وحاشاك أن تنسى السوابق منهم.... وما فعلته في القديم جدودها
إلى آخرها.
[قال السيد صارم الدين] :
وفي زبيد له فتك بفاتكها.... وما فداه الذي أعطى من الشبرِ(2/125)