ومنها :
فسح في الأرض واطَّلب المعالي.... فكم من سيِّدٍ فيها يسيحُ
ولولا أنَّ في من ساح خيراً.... يفوز به لما ساح المسيحُ
توفي علي في ذي جبلة سنة خمس عشرة وأربعمائة كان الإمام أحمد-عليه السلام- قد نشأ على طريقة آبائه الكرام، درس في الأصولين على الفقيه العالم فخر الدين زيد بن الحسن الخراساني البيهقي الوارد إلى اليمن، باستدعاء السيد الإمام علي بن عيسى بن حمزة بن وهَّاس الحسني السليماني وإن هذا الفقيه وصل لما بلغه مذاهب المطرفية وأنهم يعتزون إلى غير أهل البيت فلحقته مشاق شديدة، ونهب أكثر كتبه بين مكة والمدينة، ودرس الإمام أحمد أيضاً على السيد الفاضل، الحسن بن محمد من أولاد المرتضى بن الهادي، كان يستملي من كتاب ينسخه ستة أسطر مرة واحدة، [و] على الفقيه عبد الله بن زيد العنسي اليماني الواصل من جهة الجيل والديلم بعلوم أهل البيت -عليهم السلام- سنة إحدى وخمسمائة سنة، وعلى الشيخ العالم إسحاق بن أحمد بن عبد الباعث الآتي ذكره، وكان إسحاق هذا في نهاية العلم، مصنِّفاً كبيراً، لقي الحاكم أبا سعيد رحمه الله سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وللإمام أحمد كتب كثيرة أكثرها في الردِّ على المطرفية، ومن كتبه البليغة (أصول الأحكام) فإنه متضمن لثلاثة آلاف حديث ويزيد على ذلك قدر ثلاثمائة وكسر.(2/116)


وكان -عليه السلام- حلو المراجعة، من محاسن كلامه مخاطبة دارت بينه وبين السلطان حاتم بن أحمد؛ لأن حاتماً طلب الدخول في طاعته، وسأذكرها عند شرحي لقول السيد صارم الدين: وكم أجاب على غاوٍ… البيت، وعلم الإمام أشهر من أن يذكر في هذا المختصر، وأما كراماته عليه السلام وفضله فأشهر من نار على علم، فمن ذلك أنه أصبح ذات يوم يريد الوضوء عقيب مطر في الناحية التي هو فيها فلم يجد ماءً يرتضي لعدم المناهل، ولا وجد تراباً فبقى في حيرة، فبينا هو كذلك إذ التفت على يمينه فوجد تراباً مسكوباً ليس من جنس تراب تلك الناحية فتيمم هو وأصحابه من ذلك التراب، وبنى أهل تلك الناحية على موضعه مسجداً، ومنها أنه أتاه رجل أعمى، يقال له: جابر البصير فسلم وجلس بين يديه، وهو يريد أن يستوهب منه جربة وصيه في بلده فظن الإمام أنه أتاه ليمسح على عينيه فدعا له ومسح على عينيه فرَّد الله في عينيه النظر، فنظر الإمام ونظر من حوليه فقال: إني لم آتك لهذا فعادت الظلمة في بصره كما كانت، وأقرَّ بذلك وأخبر به حتى عرفه الموالف والمخالف، وكان هذا البصير من المطرفية فلذلك قلَّ يقينه، فسمرت بقصته السَّمار، ونظمت فيها الأشعار، فمما قيل في ذلك قصيدة القاضي الحميري أولها:
يا ابن بنت النبي كل لسان.... مادح ما يكون مدح لساني
ظهرت فيك معجزات كبار.... لم نخلها تكون في إنسانِ
لم نخبَّر بها سماعاً ولكنَّـ.... ـا رأينا يقينها بالعيانِ
تبرئ الأكمه [العليل] وتشفي.... بشفاء الله أعين العميان
وتسوق الحياءَ إلى حيث ما كنـ.... ـت وتجري الأنهار في الغيطان(2/117)


غير أن الولي لله لا ينـ.... ـكر حقاً خصائص الرحمن
هبك تشفي القلوب منك بعلم.... فبما ذا تشفي عمى العميان
ومن ذلك أنه لما خرج لحرب صعدة في عسكر عظيم من همدان وخولان لما نكث أهل صعدة عهودهم فقصدهم في ذلك العسكر، وهو قدر عشرين ألفاً من راجل وفارس، فلما علم أهل صعدة بإقباله كبسوا الأبار وطرحوا فيها الجيف، وأشفقت جنود الإمام [-عليه السلام-] من الظمأ، وكان ذلك الوقت في القيظ في شهر حزيران، فهم الإمام أن يأمر بمسنى على بئر الحائط بقرب صعدة فعلم أن ذلك لا يتم ولا يكفي الناس ولا ينفعهم لكثرتهم، وكان الماء معدوماً في الضيعة والقطيع لعدم الدلاء والأرشية، فلما فكر في ذلك وعسر عليه الأمر فزع إلى الله تعالى، وقال: اللهمَّ، سهِّل [لنا] ماءً وسيلاً في حفار صعدة، وهو في ذلك اليوم ببلد الربيعة فتقدم إلى الجَبْجَب، فأتى والناس ملئ البلاد، [و] قد أتعبهم طلب الماء، فبينا هم كذلك إذ أنشأ الله [سبحانه] سحابة على وادي غراز فوقع المطر واستكن الناس في المضارب، وكانت سبعة مضارب مضروبة قبلي سوق الجَبْجَب، واستكنّ قوم منهم في الدروب والحوانيت والسوق، وبقي آخر الناس ما له مكان، والمطر عليهم خفيف، لم يظن أحد أنه ينزل منه سيل، فبينا هم كذلك إذ أتاه البشير يعلمه بوصول سيل عظيم حتى أحاط بنواحي صعدة، وبإزائها حفر عظيمة يجاوز بعضها حد البركة الواسعة، فامتلأت ماء قراحاً، وما وقع مطر في تلك المدة في أي البلاد، وكان في ذلك الماء من البرد الشديد واللذة [العظيمة] ما لم يكن في ماء قبله ولا بعده كأنه الثلج من برده، فتقدم بعسكره(2/118)


المنصور فأخذ صعدة عنوة وأخربها، وتغنمت الجنود منها أموالاً جليلة وقد ذكر في ذلك شعراً له.
وكانت دعوته عليه السلام: في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، وانتظم أمره أولاً في صعدة، وأعمالها، ونجران، ثم الجوف، والظاهر، وانتشر حسن سيرته في أقطار اليمن، وعمد موضعاً يقال له: المقيليد في الجوف من مآثر الجاهلية؛ فأثار العمارة فيه في سنة خمس وأربعين، وكذلك فهو الذي عمر حصن تُلُمُّص؛ لأن في الرواية أنه لما شفى غرضه من حرب صعدة، وقمع المعاندين، وأخرب دورهم، وهم بالنقلة إلى الجوف بزوجته وأولاده، وكره الإقامة بالجَبْجَب لأمور، منها: أنه لما صار فيه السوق، وكان يجمع أخلاط الناس، وغوغأهم من أهل صعدة وغيرها، فسمعهم يقولون ما لا يحب سماعه من أذاهم، وارتفاع أصواتهم، فلم يحب المجاورة لهم؛ فسير أهله إلى مسلت ووقف بعدهم أياماً، فبلغه أن أهل صعدة، وبني مالك والربيعة مستبشرون بانتقاله، ومتوعدون للإشراف، ويرسم بالقليعة بعده، ونقم الثأر منهم، فلحقته الحمية، والرأفة على أقاربه وبني عمه وجيرانه، ونظر فإذا هي لا تمكنه الإقامة بيرسم، ولا بالجَبجَب، فطلع تُلُمُّص، ورتَّب فيه البناء، وتُلُمُّص هذا: حصن عظيم جاهلي، قديم، طود شامخ، منفرد وحده من الجبال، مطل على مخلاف صعدة، حاكم عليه، مبني على جنبه مدينة عظيمة تسمى صعدة القديمة، وكان اسمها في الجاهلية جماع، ومن يمانيها وادي غراز وادي جليل القدر، كثير الفروع والمساقي التي تهريق إليه، وتُلُمُّص هذا كان ممن يسكنه في الجاهلية نَوَّال بن عتيك نازع الأكتاف، والٍ لسيف بن ذي يزن الحميري، وكان(2/119)


يضرب به المثل.
قال الشاعر:
أصبحت توعدني بأمر معضل.... حتى كأنك نازع الأكتاف
عند ابن ذي يزن برأس تُلُمُّص.... بين الأرائك مسبل الأسجاف
وقال فيه الشاعر:
تلمَّص القباب في تُلمُصَّ
كالبيض من تحت الجلاء المخلص
فيه نوال مثل ثعبان النصي
شر نوال زائد لم ينقص
ودونه الخدام غير نكَّص
فحل لديه كل فحل كالخصي
يخلع أكتاف الرجال إن عصي
يقصون بالأسياف من دون العصي
كم من قتيل لنوال مقعص
وكم قنيص قبلها لم يُقْنَص
يرى بعين من خلال الخصص
فهو كمثل طائر في قفص
ومن جريح بدم مُغَمَّصِ
أصبح تحت المجلس المُجصَصِ
وينثني ببينه والغصصِ
يرجو خلاصه فلم يُخلِّصِ(2/120)

104 / 205
ع
En
A+
A-