ووجدت بخط الأمير الكبير العلامة الحسين بن بدر الدين -رحمه الله- [تعالى] مصنِّف (الشفاء) و(التقرير) ما لفظه: إن قتل المحسن وولده كان بدرب الغز بصعدة، فعند ذلك خرجت ابنته إلى خولان فنكفت القبائل، وعاضدها محمد بن عليان، وأمدهم الأمير غانم المذكور بعشرة آلاف دينار، وكتب إليهم يعتذر أن الخيل لا صبر لها في جهتكم، فعند ذلك [أجمعت القبائل على خراب صعدة وحاصروهم مدة، وضيقوا عليهم] حتى انتهى أمرهم إلى أنهم أمنوهم يحيزون أموالهم ثمانية أيام، وقالوا لهم: نحن نرعى لكم حرمة الهادي -عليه السلام- وأما خراب صعدة فلا بد منه، واشترط ابن عليان أن يلعب بفرسه في درب الغز لما كان قتل[حي] الأمير المحسن فيه.
فلما حيزوا هذه الأيام بقي من أموالهم شيء لم يحيزوه فنهبته القبائل، وأخربوا صعدة، وبالغوا في خراب درب الغز حتى لعب فيه محمد بن عليان، وحرف فيه جواده، وقد كان وعد القبائل بشيء من المال؛ لأنه قد كان أفنى المال الذي أمده به الأمير غانم إلا الشيء القليل، جعل عشرة كيزان مملؤة شقوفاً على هيئة الدنانير، وجعل في رأس كل كوز شيئاً من الدنانير التي بقيت عنده، وعدلها لهم عند من ارتضاه من شيوخ تلك القبائل.
فلما قضى وطره من خراب صعدة وقتل من قتل منهم، خشي النشبة مع القبائل فيما كان قد وعدهم [به] فعند ذلك هرب في الليل، واختلف في أمره، فقيل: إنه هرب على جواد يطرده حتى وصل الغفرة.
وقيل: بل خرج في هودج على هيئة امرأة، والله أعلم أي ذلك كان.(2/106)
وذكر الأمير الحسين أن قائل القصيدة محمد بن أحمد الطيش، قالها على لسان محمد بن عليان، وهي هذه:
تألبت الأوغاد من أهل صعدة.... لتهدم دين لله في كل وجهةِ
فحلَّ بها أمر من الله واقع.... بما أسلفت من أمرها واستحلتِ
أتاها من المنصور داعٍ فصدقت.... به ثم عنه بعد ذلك صدتِ
فلما رأى منها المحسن ما رأى.... من الفسق ناداها بصوت فصمتِ
فدَّوخ نجراناً ودمَّر صعدة.... وأضمرت البغضاء له وأسرتِ
وأعلنت الطغيان في الشرب والخنا.... وذلك لما أن عن الرشد ضلتِ
وأرسل نحوي بعد ذاك كتابه.... يعاتبني فيه ويطلب نصرتي
فثرت إليه قاصداً نحو صعدة.... وعقدت بالعزم اعتقادي ونيتي
وسار بسيري عصبة أهل عفة.... وبيعتهم في الدين أعظم بيعة
[ومنها: ]
فلما وصلنا قاصدين محسناً.... وجملة إخواني جميعاً بحضرتي
وناظرته في حضرة الكل منهم.... بكل احتجاج حجة بعد حجتِ
فلما استقام الحق واتضح الهدى.... وبانت لداعي الحق سبل المحجةِ
ولم يبق لي عند المحسن حجة.... مددت يدي طوعاً لتسليم بيعتي
فسلمت من بعد احتجاج مكرر.... لداعي إمامي بعد تسليم إخوتي
وأشعرت نفسي الصبر في كل حالة.... وصار رداء الصبر في الخطب حلتي
وأُبنا جميعاً قافلين لبيعة الإمـ.... ـام الذي نرجو له خير دولتِ
إلى أن نزلنا في ثلا حيث خيمت.... نجوم الثريا بين أرباب منعةِ
ذؤابة قحطان المصاليت حمير.... بهم نلت في الأيام أرفع رتبةِ
أفديهم من كل سوء لأنهم.... هم الذروة القعساء أشرف ذروةِ
وخضت بهم دين الإله ولم أزل.... أجدد فيه غرفةً بعد غرفةِ
فلما أتى داعي الإمام الذي به.... غدا وهو منسوب إلى خير عترةِ(2/107)
حميد المساعي السيد العالم الذي.... غدا قائماً في كل فرض وسنةِ
هتفت بإخواني الذين عهدتهم.... على بيعة المنصور صحبي وجيرتي
وقلت لهم سيروا لنصر إمامكم.... فأنتم له في الدهر أعظم نصرتِ
فمالوا إلى الخذلان لما دعوتهم.... فكم زفرة تعتادني بعد زفرةِ
فسرت ولم أكشف غطاء عليهم.... رجاءً ولم أضمر لهم غير رحمةِ
وقمت لدين الله لما أتت له.... براهين من هذا الإمام تجلتِ
فيا لائمي فيما صنعت بصعدة.... دع اللوم واسمع حجة القوم واصمتِ
وسل فرقة الطاغوت عن قتل جارها.... وقتل ابنه سهلاً بماذا استحلتِ
توسمت الأوغاد عزاً ونخوة.... بقتل الذي أفنته ظلماً فزلتِ
فدمَّرها داعي الإمام وجنده الحـ.... ـسين الذي طالت به الدهر همتي
فكنت له طوعاً إذا رام معضلاً.... بذلت له في المعضل الصعب مهجتي
وقمت قيام الليث عند قيامه.... دككت بعزمي صعدة خير دكةِ
بخولان قد دمرت صعدة بعدما.... طغت وعتت تدمير أصحاب ليكةِ
ولولا ابن يحيى غانم الملك ما إذا.... شفيت من الباغين في الدهر علتي
ولكنه قام اغتراماً ونخوة.... وديناً فكانت نخوة خير نخوةِ
غدا ناصراً للدين من كل ظالم.... كفور كنصل باتك الحد مصلتِ
وكان أمير الهاشميين عصمة.... لدين بني الزهراء أعظم عصمتي
فقل لجميع الباطنية هل رأت.... دماً طل للمقتول في أرض صعدةِ
ألم أطف حرباً أضرمتها لحربنا.... بصعدة قوم أهل غدر وإحنةِ
أحاط بها داعي الإمام وجنده.... مجيبون للمنصور أفضل دعوةِ
وحاق بها طغيانها وضلالها.... ألا إنها صلَّت إلى غير قبلةِ(2/108)
انتهى المختار من هذه القصيدة، وحذفت شيئاً منها اختصاراً، وهي قدر ثمانين بيتاً، وقد ذكر في (الحدائق) أنها إلى قدر خمسين بيتاً. فافهم.
تنبيه: ومما وجدته بخط الأمير الحسين بن محمد المقدم ذكره أن ابن عليان لما كثرت عنايته في نصر أهل بيت رسول الله ً نحو ما تقدم، ونحو عنايته في اجتماع الشرف على أنهم ضربوا ملقى إلى مدر من بلاد حاشد في شهر صفر من سنة خمس وأربعين وخمسمائة سنة، فالتقوا، وحضر من ذرية علي –عليه السلام- بشر كثير يزيد على ألف، [و] من كبار الشيعة وعلمائهم، ونظروا فيمن يصلح فيهم للقيام والجهاد ونفي المنكر والفساد، فما وجدوا لذلك مستحقاً، فعزم رأيهم على التقدم إلى الإمام أحمد بن سليمان -عليه السلام-، ورأوا أنه لا يستحق القيام من ذرية علي -عليه السلام- غيره.
قلت: هكذا ذكره الأمير علي بن الحسين، وهذا يدل على أنهم ما قالوا بالإمام أحمد بن سليمان إلا بعد هذه المدة، وهي تأتي قريباً من ثلاث عشرة سنة من دعوته- عليه السلام-.(2/109)
قال الأمير الحسين: وكان أكثر من حرضهم على ذلك: الشيخ محمد بن عليان المذكور فنهض منهم ثلاثمائة رجل، فبايعوه -عليه السلام- على ما هو مذكور في سيرته، فلما علم السلطان حاتم بن أحمد وسليمان بن الحسن الشهابي بجد ابن عليان واجتهاده في ذلك اجتهدوا في قتله، وأمروا رجلاً من يام، فقتله في سوق سهمان، فاغتَّم الإمام أحمد بن سليمان لذلك غماً شديداً، وحارب حاتم بن أحمد في ثار الشيخ محمد بن عليان المذكور حروباً كثيرة، مذكورة في سيرته -عليه السلام- إلى أن أخذ بثأره يوم القليس، وهو يوم الشرزة وحديثه مشهور.
قلت: و[قد] رأيت في (تأريخ مسلم اللحجي) كلاماً يوهم الطعن على ابن عليان المذكور، وأنه كان يشتهي الشهرة، وتهييج الحروب، ويطلب الرئاسة، وذكر بيتين قال: إنهما وجدا مكتوبين في بعض جدران مسجد بنجران، وقد نزل هناك الشيخ محمد المذكور، وهما:
قل لابن عليان دع عنك النواميسا.... فإن ذلك أمر صار مدروسا
إن كان إبليس أغوى الناس كلهم.... فأنت أنت الذي أغويت إبليسا
فهذه كما ترى توهم الطعن على هذا الرجل، لكن لعل ذلك من أعدائه الباطنية أو المطرفية، لأنهم يعتقدون أن أباه كان من رؤوس أصحاب مطرف بن شهاب، وأما هذا فاختار مذهب الزيدية المخترعة، ولعمري لقد أرادوا
[أن] يذموا فمدحوا، وأن يفضحوا فافتضحوا.
وما على التبر عارٌ.... في النار حين يُقلَّبُ(2/110)